اسماء السورة
بيان المكي والمدني :::مقاصد السورة :::موضوعات السورة :::
سورةُ
المُؤْمِنونَ :::: مقدمة السورة ::::: أسماء السورة:
سُمِّيت هذه السُّورةُ بسورةِ (المؤمنون) .
فعن عبدِ الله بنِ السَّائبِ رضي الله عنه، قال: ((صلَّى لنا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الصبحَ بمكةَ،
فاستفتح سورةَ المؤمنينَ حتَّى جاء ذِكرُ موسَى وهارونَ أو ذِكرُ عيسَى -محمدُ بنُ عبَّادٍ يشكُّ،
أو اختلفوا عليه- أخَذَتِ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سَعْلةٌ فركع، وعبدُ الله بنُ السَّائبِ حاضرٌ ذلك)) .
بيان المكي والمدني:
سورةُ (المؤمنون) مكيَّةٌ، ونقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ من المفسِّرين .
مقاصد السورة:
مِن أهمِّ مقاصدِ هذه السورةِ:
1- تحقيقُ الوحدانيَّةِ، وإبطالُ الشِّركِ .
2- تقريرُ النُّبُوةِ للنَّبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، والردُّ على مَن ينكرونَها مِن الكفَّارِ .
3- الدَّلالةُ على أخلاقِ أهلِ الإسلامِ .
موضوعات السورة:
مِن أبرزِ المَوضوعاتِ التي تناولَتْها هذه السُّورةُ:
1- بيانُ صِفاتِ المؤمِنينَ، وما أعدَّه اللهُ لأصحابِ هذه الصِّفاتِ.
2- ذِكرُ أطوارِ خَلقِ الإنسانِ الدالِّ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وقُدرتِه على البَعثِ.
3- بيانُ بَعضِ مَظاهِرِ قُدرةِ اللهِ في هذا الكَونِ.
4- ذِكرُ جانبٍ مِن قَصَصِ بَعضِ الأنبياءِ، ومَوقِفِ أقوامِهم منهم، وكيف كانت العاقبةُ.
5- توجيهُ الرُّسُلِ إلى أكلِ الحَلالِ الطَّيِّبِ، والمداومةِ على العَمَلِ الصَّالحِ؛ وبيانُ وَحدةِ دينِ الأنبياءِ جَميعًا.
6- بيانُ مَوقِفِ المُشرِكينَ مِن الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، ومَصيرِهم يومَ القيامةِ،
مع الرَّدِّ على شُبُهاتِهم الفاسِدةِ، وتسليةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما يُثَبِّتُ قَلبَه.
7- ذِكرُ بَعضِ الأدِلَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِه؛ كخَلقِ سَمعِهم وأبصارِهم وأفئِدتِهم،
ونَشأتِهم مِن الأرضِ، وإشهادِهم على أنفُسِهم بأنَّ الخالِقَ هو اللهُ.
8- إرشادُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أن يغُضَّ عن سوءِ مُعاملةِ
المُشرِكينَ، ويَدفعَها بالتي هي أحسَنُ، وأن يستعيذَ باللهِ مِن الشَّياطينِ.
9- ذِكرُ أحَدِ مَشاهِدِ يومِ القيامةِ وما يَنتظِرُ المُشرِكينَ في هذا اليومِ، وحالِهم عند نُزولِ الموتِ بهم.
10- خُتِمت السُّورةُ بأمرِ اللهِ لِنَبيِّه بالتوجُّهِ إليه طلَبًا للرَّحمةِ والغُفرانِ.
سورةُ المُؤْمِنونَ :::: الآيات (1-11)
غريب الكلمات:
أَفْلَحَ: أي: فازَ وسعِد، والفَلاحُ: الظَّفَرُ وإدراكُ البُغيةِ، والبقاءُ، وأصلُ (فلح): يدلُّ على فوزٍ وبقاءٍ .
خَاشِعُونَ: أي: ساكِنونَ مُتواضِعونَ، وأكثَرُ ما يُستعمَلُ الخشوعُ فيما يُوجَدُ على الجوارحِ، وأصلُ (خشع): يدُلُّ على التطامُنِ
.
اللَّغْوِ: أي: الباطِلِ، وما يجبُ أن يُلغَى مِن اللعبِ والهزلِ والمعاصي، واللَّغْوُ مِن الكلامِ:
ما لا يُعتدُّ به، وأصلُه يدُلُّ على الشَّيءِ لا يُعتَدُّ به .
مُعْرِضُونَ: أي: مُنصَرِفونَ، والإعراضُ: هو أن تولِّيَ الشَّيءَ عُرضَك، أي: جانِبَك، ولا تُقبِلَ عليه .
الْعَادُونَ: أي: المجاوِزونَ الحَدَّ، والمُعتَدونَ، وأصلُه: يدُلُّ على تَجاوُزِ الحَدِّ .
رَاعُونَ: أي: قائِمونَ بالحِفظِ والإصلاحِ، وأصلُ (رعي): يدلُّ على مُراقَبةٍ وحِفْظٍ .
الْفِرْدَوْسَ: أي: أعلَى الجنَّةِ، وأوسطَها، وقيل: هو البستانُ المخصوصُ بالحسنِ
وذلك بلسانِ الرُّومِ، وأصلُ الفردوسِ: البستانُ الواسعُ الجامعُ لأصنافِ الثَّمَرِ .
مشكل الإعراب:
قَولُه تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
قَولُه تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ مُتعَلِّقٌ بـ حَافِظُونَ لتَضمينِه معنى (مُمسِكونَ)، والإمساكُ يتعَدَّى بـ (على)
كما في قَولِه تعالى:
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] ، والاستِثناءُ مُفَرَّغٌ على اعتبارِ معنى النَّفي المفهومِ مِن
الإمساكِ؛ ليصِحَّ التَّفريغُ، لأنَّه لا يكونُ إلَّا بعدَ نَفيٍ أو ما في مَعناه، فكأنَّه قيلَ: حافِظونَ فُروجَهم لا يَكشِفونَها إلَّا
على أزواجِهم. وقيل: (على) بمعنى (مِنْ)، وهي مُتعَلِّقةٌ بـ (حَافِظوُنَ)، أي: يَحفَظونَها إلَّا مِنْ أزواجِهم.
وقيل: (عَلَى) مُتعَلِّقةٌ بمَحذوفٍ يدُلُّ عليه غَيْرُ مَلُومِينَ، كأنَّه قيل: يُلامُونَ إلَّا على أزواجِهم، أي:
يُلامونَ على كُلِّ مُباشَرٍ إلَّا على ما أُطلِقَ لهم؛ فإنَّهم غَيرُ ملومينَ عليه. وقيل غيرُ ذلك .
المعنى الإجمالي:
يخبِرُ الله تعالى أنَّ المؤمنينَ قد فازوا وأفلحوا، وذلك لجمعهم صفاتِ الفوزِ والفلاحِ، فمِن صِفاتِهم أنَّهم خاشعونَ لله
في صلاتِهم، وأنَّهم معرِضونَ عن الباطل، وأنَّهم لزَكاةِ أموالِهم مُؤَدُّونَ، وأنهم لفُروجِهم حافِظونَ مِن الوقوع فيما
حرَّمَ اللهُ إلَّا مِن زَوجاتِهم أو ما ملَكَت أيمانُهم مِنَ الإماءِ؛ فلا لَومَ عليهم ولا حَرَجَ في الاستِمتاعِ بهِنَّ، وجِماعِهنَّ
على الوجهِ المَشروعِ، فمَن طلَبَ خِلافَ ما أحلَّه الله فهو مِن المجاوِزينَ الحَلالَ إلى الحَرامِ. ومِن صفاتِ المفلحينَ
أيضًا أنهم يحفظونَ كُلَّ ما اؤتُمِنوا عليه، ويُوفون بكُلِّ عُهودِهم، وأنَّهم يواظِبون على أداءِ صَلَواتِهم في
أوقاتِها بأركانِها وشُروطِها وواجِباتِها. هؤلاء المُؤمِنونَ الذين اتَّصفوا بتلك الصفاتِ هم الوارِثونَ في
الآخرةِ مَنازِلَ أهلِ النَّارِ مِن الجَنَّةِ، الذين يَرِثونَ يومَ القيامةِ جناتِ الفردوسِ، هم فيها خالِدونَ.
تفسير الآيات: :::: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1).
أي: قد فاز وظفِر بخَيرِ الدُّنيا والآخرةِ المُؤمِنونَ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجبَ عليهم الإيمانُ به .
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2).
أي: الذينَ مِن صِفاتِهم أنَّهم في صَلاتِهم خاضِعونَ، مُتَذلِّلونَ لله ساكِنونَ، مُتدَبِّرونَ لِما يقولونَ فيها .
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3).مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا وصَف اللهُ سُبحانَه وتعالى المؤمِنينَ بالخُشوعِ في الصَّلاةِ؛ أتبَعَه الوَصفَ بالإعراضِ عن اللَّغوِ؛
ليجمَعَ لهم الفِعلَ والتَّركَ الشَّاقَّينِ على الأنفُسِ، اللذينِ هما قاعِدتا بناءِ التَّكليفِ .
وأيضًا عقَّبَ ذِكْرَ الخُشوعِ بذِكْرِ الإعراضِ عنِ اللَّغوِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ في الأصْلِ الدُّعاءُ، وهو مِن الأقوالِ
الصَّالحةِ؛ فكان اللَّغوُ ممَّا يَخطُرُ بالبالِ عندَ ذِكْرِ الصَّلاةِ بجامِعِ الضِّدِّيَّةِ، فكان الإعراضُ عن اللَّغوِ
بمَعنَييِ الإعراضِ (إعراضِ السَّمْعِ عن اللَّغْوِ، وإعراضِ الألْسِنَةِ عنه) ممَّا تَقْتَضيه الصَّلاةُ والخُشوعُ؛
لأنَّ مَن اعتادَ القولَ الصَّالِحَ تجنَّبَ القولَ الباطِلَ، ومَن اعتادَ الخُشوعَ للهِ تجنَّبَ قولَ الزُّورِ .
وأيضًا لَمَّا كان كلٌّ مِن الصَّلاةِ والخُشوعِ صادًّا عن اللَّغوِ؛ أتبَعَه قَولَه :
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3).
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم معرِضونَ عن الباطلِ وجميعِ ما يَكرَهُه الله؛ كالمعاصي وما
لا فائِدةَ ولا خَيرَ فيه؛ تَنزيهًا لأنفُسِهم عنه، وانشِغالًا منهم بما يَنفَعُ مِن الحَقِّ والخَيرِ .كما قال سُبحانَه:
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] .
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4).مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لمَّا ذكَر الصَّلاةَ عَقَّبَ بذكرِ الزَّكاةِ؛ لكثرةِ التَّآخِي بيْنَهما في آياتِ القرآنِ .
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4).أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم لزَكاةِ أموالِهم مُؤَدُّونَ .
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5).مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أشار إلى أنَّ بَذْلَ المالِ على وجهِه طُهرةٌ، وأنَّ حبسَه عن ذلك تَلَفٌ؛ أتبعه الإيماءَ
إلى أنَّ بذْلَ الفرْجِ في غيرِ وَجهِه نجاسةٌ، وحِفظَه طُهرةٌ، فقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ،
وذِكْرُ الشَّهوةِ بعدَ اللَّغوِ الدَّاعي إليها، وبذْلِ المالِ الذي هو مِن أعظَمِ أسبابِها- عظيمُ المناسَبةِ .
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5).
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم صائِنونَ لفُروجِهم مِن الحَرامِ، فلا يَقَعونَ فيما نهاهم اللهُ عنه مِنَ الفواحِشِ .
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6).
أي: هُم يَحفَظونَ فُروجَهم إلَّا مِن زَوجاتِهم أو مِن إمائِهم اللَّاتي يَملِكونَهنَّ؛
فإنَّهم لا يُلامُونَ على وَطْئِهنَّ على الوَجهِ المَشروعِ .
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7).
أي: فمَنِ التَمَس التمَتُّعَ بفَرجِه فيما سِوى زَوجتِه وأمَتِه، فأولئك هم المُعتَدونَ،
المتعَدُّونَ حُدودَ اللهِ، المجاوِزونَ ما أحلَّه لهم إلى ما حرَّمَه عليهم .
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا كان حِفظُ الفُروجِ مِن الأماناتِ العظيمةِ؛ أتبَعَه عمومَها، فقال :
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8).
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم لِمَا ائتَمَنَهم اللهُ والنَّاسُ عليه، ولِعُهودِهم مع اللهِ وعبادِه
مُراعونَ، قائِمونَ بحِفظِها، والوَفاءِ بها، فلا يَخونونَ الأماناتِ، ولا يَنقُضونَ العُهودَ
.
كما قال تعالى
: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] .
وقال سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
وقال عزَّ وجلَّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
وقال تبارك وتعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل: 91] .
وقال سُبحانَه:
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] .
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا كانت الصَّلاةُ أجَلَّ ما عُهِدَ فيه مِن أمرِ الدِّينِ وآكَدَ، وهي مِن الأمورِ الخَفيَّةِ التي
وقَع الائتِمانُ عليها، لِما خفَّفَ اللهُ فيها على هذه الأمَّةِ بإيساعِ زمانِها ومكانهِا؛ قال :
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9).
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم مُواظِبونَ على أداءِ صَلَواتِهم في أوقاتِها، بأركانِها وشُروطِها وواجِباتِها .
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10).
أي: أولئك المُؤمِنونَ المَوصوفونَ بتلك الصِّفاتِ هم الوارِثونَ يَومَ القيامةِ مَنازِلَ أهلِ النَّارِ مِن الجَنَّةِ .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِنكم مِن أحَدٍ إلَّا له مَنزِلانِ:
مَنزِلٌ في الجنَّةِ، ومَنزِلٌ في النَّارِ، فإذا مات فدخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ مَنزِلَه، فذلك قَولُه تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)) .
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11).
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ.أي: أولئك المُؤمِنونَ يَرِثونَ يومَ القيامةِ جَنَّاتِ الفِردَوسِ .
كما قال تعالى:
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63] .
وقال سُبحانَه:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فإذا سألتُمُ اللهَ فسَلُوه
الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ )) .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ أمَّ الرُّبَيِّعِ بِنتَ البراءِ -وهي أمُّ حارِثةَ ابنِ سُراقةَ- أتَتِ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: ((يا نبيَّ اللهِ، ألَا تُحَدِّثُني عن حارِثةَ -وكان قُتِلَ يَومَ بَدرٍ؛
أصابَه سَهمٌ غَرْبٌ - فإن كان في الجنَّةِ صَبَرتُ، وإن كان غيرَ ذلك اجتَهَدْتُ عليه في البُكاءِ؟
قال: يا أُمَّ حارِثةَ، إنَّها جِنانٌ في الجنَّةِ، وإنَّ ابنَك أصاب الفِردَوسَ الأعلى !!)) .
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.أي: هم في تلك الجنَّاتِ ماكِثونَ لا يَخرُجونَ
منها أبَدًا؛ فهم في خُلودٍ لا مَوتَ معه، ولذَّةٍ ونَعيمٍ لا انقِطاعَ له، ومُلكٍ عَظيمٍ لا زَوالَ عنه .
كما قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ
الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107- 108] .
الفوائد التربوية:
1- قَولُ اللهِ تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... الآياتِ، هذا تنويهٌ مِن اللهِ تعالى بذِكرِ عبادِه المؤمِنينَ، وذِكرِ فلاحِهم
وسعادتِهم، وبأيِّ شيءٍ وصَلوا إلى ذلك، وفي ضِمنِ ذلك الحثُّ على الاتِّصافِ بصفاتِهم، والتَّرغيبُ فيها، فَلْيَزِنِ
العبدُ نفْسَه وغيرَه على هذه الآياتِ، يَعرِفْ بذلك ما معه، وما مع غيرِه من الإيمانِ، زيادةً ونَقصًا، كثرةً وقِلَّةً .
2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ الإعراضُ عن جنسِ اللَّغوِ: مِن خُلُقِ الجِدِّ، ومَن تخلَّق
بالجِدِّ في شؤونِه كَمَلَت نفْسُه، ولم يصدُرْ منه إلَّا الأعمالُ النَّافِعةُ؛ فالجِدُّ في الأمورِ مِن خُلُقِ الإسلامِ .
3- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أنَّهم لا يُمْضون أوقاتَهم الثَّمينةَ إلَّا فيما فيه فائدةٌ،
وإذا كان مِن وصفِهم الإعراضُ عن اللَّغوِ -وهو ما لا فائِدةَ فيه- فإعراضُهم عن المحرَّمِ وما فيه
مضرَّةٌ مِن بابِ أولى وأحرى، وإذا ملَكَ العبدُ لسانَه وخزَنَه -إلَّا في الخيرِ-
كان مالكًا لأمرِه؛ فالمؤمنون مِن صفاتِهم الحميدةِ كَفُّ ألسنتِهم عن اللَّغوِ والمحرَّماتِ .
4- عَلَّقَ سُبحانَه فلاحَ العبدِ على حِفْظِ فرْجِه مِن الزِّنا؛ فلا سبيلَ إلى الفلاحِ بدونِه، فقال:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قَولِه سبحانَه:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وهذا يتضمَّنُ ثلاثةَ أمورٍ:
أنَّ مَن لم يحفَظْ فرْجَه لم يكُنْ مِن المفلحينَ، وأنَّه مِن المَلومينَ، ومِن العادينَ؛ ففاته الفلاحُ،
واستحقَّ اسمَ العُدوانِ، ووقعَ في اللَّومِ؛ فمقاساةُ ألَمِ الشَّهوةِ ومعاناتُها أيسَرُ مِن بعضِ ذلك .
5- قَولُ اللهِ تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ أي: في الجِماعِ وما داناه بالظَّاهِرِ والباطِنِ، فهم دائمًا
لا يُتبِعونَها شهوتَها، بل هم قائِمونَ عليها يُذِلُّونَها ويَضبِطونَها . وقولُه:
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ فيه إيذانٌ بأنَّ
قُوَّتَهم الشَّهْويَّةَ داعيةٌ لهم إلى ما لا يَخْفى، وأنَّهم حافِظون لها مِن استيفاءِ مُقْتضاها، وبذلك يَتحقَّقُ كَمالُ العِفَّةِ .
6- قَولُ اللهِ تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ هذا عامٌّ في جميعِ الأماناتِ التي هي
حقٌّ لله، والتي هي حقٌّ للعبادِ؛ فجميعُ ما أوجبه اللهُ على عبدِه أمانةٌ، على العبدِ حِفظُها بالقيامِ
التَّامِّ بها، وكذلك يدخُلُ في ذلك أماناتُ الآدميِّينَ؛ كأماناتِ الأموالِ والأسرارِ ونحوِهما، فعلى
العبدِ مُراعاةُ الأمْرينِ، وأداءُ الأمانتينِ، وكذلك العهدُ يشمَلُ العهدَ الذي بينهم وبينَ رَبِّهم،
والذي بينَهم وبينَ العبادِ، وهي الالتِزاماتُ والعُقودُ التي يَعقِدُها العبدُ؛
فعليه مراعاتُها، والوفاءُ بها، ويَحرُمُ عليه التَّفريطُ فيها، وإهمالُها .
7- قَولُ اللهِ تعالى
: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ مدَحَهم بالخُشوعِ في الصَّلاةِ في بدايةِ السُّورةِ حيث قال:
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 2] ، وبالمحافَظةِ عليها في هذه الآيةِ؛ لأنَّه لا يَتِمُّ أمرُهم إلَّا بالأمْرينِ؛
فمَن يداومْ على الصَّلاةِ مِن غَيرِ خُشوعٍ، أو على الخُشوعِ مِن دونِ مُحافظةٍ عليها؛ فإنَّه مذمومٌ ناقِصٌ .
8- قَولُ اللهِ تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... الآياتِ، جمَعت هذه الآياتُ أصولَ التَّقوى الشَّرعيَّة؛ لأنَّها أتت على
أعسَرِ ما تُراضُ له النفْسُ مِن أعمالِ القلبِ والجوارحِ، فجاءت بوصفِ الإيمانِ وهو أساسُ التقوى،
ثمَّ ذكَرَت الصَّلاةَ وهي عِمادُ التقوى، والتي تنهَى عن الفحشاءِ والمنكَرِ؛ لِما فيها مِن تكرُّرِ استحضارِ
الوقوفِ بينَ يديِ الله ومناجاتِه، وذكَرَت الخشوعَ وهو تمامُ الطاعةِ؛ لأنَّ المرءَ قد يعمَلُ الطاعةَ
للخروجِ مِن عهدةِ التكليفِ غيرَ مُستحضِرٍ خُشوعًا لربِّه الذي كلَّفه بالأعمالِ الصالحةِ،
فإذا تخلَّق المؤمِنُ بالخشوعِ اشتَدَّت مراقبتُه رَبَّه، فامتثل واجتنَبَ، فهذان مِن أعمالِ القلبِ.
وذكرَت الإعراضَ عن اللَّغوِ، واللَّغوُ مِن سوءِ الخُلقِ المتعلِّقِ باللسانِ الذي يعسُرُ إمساكُه، فإذا تخلَّق
المؤمِنُ بالإعراضِ عن اللَّغوِ فقد سهُلَ عليه ما هو دونَ ذلك، وفي الإعراضِ عن اللَّغوِ خُلقٌ للسَّمعِ
أيضًا. وذكَرَت إعطاءَ الصَّدَقاتِ، وفي ذلك مقاومةُ داءِ الشُّحِّ،
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[التغابن: 16] . وذكَرَت حِفظَ الفَرجِ، وفي ذلك خُلقُ مُقاومةِ اطِّرادِ الشَّهوةِ الغريزيَّةِ، بتعديلِها وضبطِها،
والترفُّعِ بها عن حضيضِ مُشابهةِ البهائمِ. وذكَرَت أداءَ الأمانةِ، وهو مظهَرٌ للإنصافِ، وإعطاءِ ذي الحقِّ
حَقَّه، ومغالبةِ شَهوةِ النفْسِ لأمتعةِ الدُّنيا. وذكَرَت الوفاءَ بالعهدِ، وهو مظهرٌ لخُلقِ العدلِ في المعاملةِ،
والإنصافِ من النفْسِ بأن يَبذُلَ لأخيه ما يحِبُّ لنفسِه من الوفاءِ. وذكَرَت المحافظةَ على الصَّلواتِ،
وهو التخلُّقُ بالعنايةِ بالوقوفِ عند الحدودِ والمواقيتِ. وأنت إذا تأمَّلتَ هذه الخِصالَ وجدْتَها ترجِعُ إلى
حِفظِ ما مِن شأنِ النُّفوسِ إهمالُه؛ مثلُ: الصَّلاةِ، والخُشوعِ، وتَركِ اللَّغوِ، وحِفظِ الفرجِ، وحفظِ العهدِ؛
وإلى بَذْلِ ما من شأنِ النفوسِ إمساكُه؛ مثلُ: الصَّدقةِ، وأداءِ الأمانةِ. فكان في مجموعِ ذلك
إعمالُ ملَكتَيِ الفعلِ والتَّركِ في المهِمَّاتِ، وهما منبَعُ الأخلاقِ الفاضلةِ لمن تتبَّعَها .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- جعَلَ اللهُ تعالى فاتحةَ السُّورةِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وأَوردَ في خاتمتِها: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ؛ فشَتَّانَ ما بيْنَ الفاتحةِ والخاتمةِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فيه سؤالٌ: كيف حكمَ على الموصوفينَ بالصِّفاتِ المذكورةِ
بالفلاحِ، مع أنَّه تعالى ما تمَّم ذِكرَ العباداتِ الواجبةِ كالصَّومِ والحَجِّ والطَّهارةِ؟
الجوابُ: أنَّ قَولَه:
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ يأتي على جميعِ الواجِباتِ مِن الأفعالِ
والتُّروكِ، والطَّهاراتُ دخَلتْ في جملةِ المحافظةِ على الصَّلواتِ الخَمسِ؛ لكَونِها مِن شرائِطِها .
3- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... الآياتِ، فيها مِن شُعَبِ الإيمانِ: الخُشوعُ في الصَّلاةِ، واجتِنابُ اللَّغوِ، وأداءُ
الزَّكاةِ، وحِفظُ الفَرجِ إلَّا على الأزواجِ والسَّراريِّ، وحِفظُ الأماناتِ والعُهودِ، والمحافظةُ على الصَّلواتِ لأوقاتِها .
4- قَولُه تعالى
: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ استُدِلَّ به على وجوبِ الخشوعِ في الصلاةِ؛
فقد أخبرَ سُبحانَه وتعالى أنَّ هؤلاء الذين ذُكِرتْ خِصالُهم هم الذين يَرِثونَ فِردَوسَ الجنَّةِ، وذلك يقتضي أنَّه
لا يَرِثُها غيرُهم، وقد دَلَّ هذا على وجوبِ هذه الخصالِ؛ إذ لو كان فيها ما هو مُستحَبٌّ لكانت جنَّةُ الفردوسِ
تُورَثُ بدونِها؛ لأنَّ الجنَّةَ تُنالُ بفِعلِ الواجباتِ دونَ المُستحبَّاتِ؛ ولهذا لم يُذكَرْ في هذه الخِصالِ إلَّا ما هو واجِبٌ .
5- في قولِه تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قَولِه سبحانَه:
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ حُجَّةٌ على المُرجِئةِ
واضحةٌ؛ أَلَا تراه كيف نَعَتَ المؤمِنينَ بنُعوتِ العَمَلِ، ولم يجعَلْهم وارِثي جنَّتِه وفِردَوسِه إلَّا بها،
فكيف يكونُ مُستَكمِلَ الإيمانِ مَن عَرِيَ مِن هذه النُّعوتِ المذكورةِ في وصفِ المؤمنينَ ؟!
6- قولُه تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ استُدِلَّ به على تحريمِ نِكاحِ المُتعةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى إنَّما أباح في كتابِه الأزواجَ ومِلْكَ اليَمينِ،
وحَرَّمَ ما زاد على ذلك، والمُستَمتَعُ بها بعدَ التَّحريمِ ليست زَوجةً ولا مِلْكَ يمينٍ؛ فتكونُ حَرامًا بنَصِّ القُرآنِ؛ أمَّا كَونُها
ليست مملوكةً فظاهرٌ، وأمَّا كونُها ليست زَوجةً فلانتِفاءِ لوازمِ النِّكاحِ فيها؛ فإنَّ مِن لوازمِ النِّكاحِ كونَه سبَبًا للتَّوارُثِ،
وثبوتَ عِدَّةِ الوفاةِ فيه، والطَّلاقَ الثَّلاثَ، وتَنصيفَ المهرِ بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، وغيرَ ذلك مِن اللَّوازمِ .
7- قولُه تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ استُدِلَّ به على تحريمِ نِكاحِ
المحَلِّلِ؛ فإنَّ مَن تزوَّجها لذلك ليسَتْ زوجةً حقيقةً مقصودًا بقاؤُها، ولا مملوكةً .
8- قَولُ اللهِ تعالى:
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يدُلُّ على أنَّه يُشتَرَطُ في حِلِّ المملوكةِ أن تكونَ كُلُّها
في مِلكِه، فلو كان له بَعضُها لم تحِلَّ؛ لأنَّها ليست ممَّا ملكت يمينُه، بل هي مِلكٌ له ولغيرِه .
9- قَولُ اللهِ تعالى:
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فيه سؤالٌ: هلَّا قيل: (مَن مَلَكَتْ)، فالمملوكاتُ مِن جملةِ العقلاءِ، والعقلاءُ يُعبَّرُ عنهم بـ (مَن) لا بـ (ما)؟
الجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ التعبيرَ عن الإماءِ باسمِ (ما) الموصولةِ الغالِبِ استعمالُها لغيرِ العاقلِ-
جرى على خلافِ الغالبِ، وهو استعمالٌ كثيرٌ لا يُحتاجُ معه إلى تأويلٍ ، وإطلاقُ (ما) مُرادًا بها
(مَنْ) كثيرٌ في القرآنِ، كقولِه:
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 3] أي: مَنْ طابَ لكم .
الثاني: أنَّ الإماءَ لَمَّا كُنَّ يَتَّصِفْنَ ببعضِ صفاتِ غيرِ العقلاءِ، كبيعِهنَّ وشرائِهنَّ ونحوِ ذلك،
كان ذلك مُسوِّغًا لإطلاقِ لفظةِ (ما) عليهنَّ . وقيل غيرُ ذلك .
10- قولُه تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ظاهرُ
عمومِه يقتضي جوازَ أنْ يستمتعَ الرجلُ بزوجتِه فيما شاء، ما عدا الدُّبُرَ؛ فإنَّه لا يجوزُ للرجُلِ أنْ يجامِعَ زوجتَه فيه .
11- في عمومِ قَولِه تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ دليلٌ على تحريمِ الاستمناءِ، الذي يُسمَّى: (العادةَ السِّرِّيَّةَ)؛ لأنَّه عمليةٌ في
غيرِ الزوجاتِ والمملوكاتِ ، فظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أنَّه حرامٌ ظهورًا بَيِّنًا، ولم يَرِدْ في كتابِ الله ولا في سُنةِ رسولِ اللَّهِ
شيءٌ يعارضُ ظاهرَ هذه الآيةِ، فالله تعالى لم يَسْتَثْنِ إلا نوعينِ، وهو قولُه: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، ثمَّ جاء بحكمٍ عامٍّ شاملٍ، وهو قولُه: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ،
ولا شَكَّ أنَّ الناكحَ يدَه مِمَّنِ ابتغَى وراءَ ذلك، فهو داخلٌ في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ .
12- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ فيه دليلٌ على حرمةِ إتيانِ البهيمةِ، وأنَّه معصيةٌ،
فأيُّ شيءٍ وراءَ الأزواجِ ومِلْكِ اليمينِ يُعتبرُ عُدوانًا وظُلمًا .
13- في قوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ دليلٌ على أنَّ التعرِّيَ عند الجماعِ لا حَرَجَ فيه؛ لأنَّه إذا كان
لا مَلامةَ في عدمِ سَتْرِ الفرجِ عندَ الجماعِ، فما سِواه مِن بابِ أَولى .
14- قَال الله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وقال أيضًا:
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ،
لا يخفَى ما في افتتاحِ هذه الأوصافِ واختتامِها بالصلاةِ مِن التعظيمِ لها،
كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((واعْلَموا أنَّ خيرَ أعمالِكمُ الصلاةُ )) .
15- قَولُ اللهِ تعالى:
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لِمَ سُمِّيَ
ما يجدونَه مِن الثَّوابِ والجنَّةِ بالميراثِ، مع أنَّه سبحانَه حكمَ بأنَّ الجنَّةَ حَقُّهم في قولِه:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] ؟
الجواب من وجوهٍ:
الأولُ: ما ورد عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وهو أبينُ على ما يقالُ فيه، وهو: أنَّه لا مُكلَّفَ إلَّا أعدَّ اللهُ
له في النَّارِ ما يستحِقُّه إن عصى، وفي الجنَّةِ ما يستحِقُّه إن أطاع، وجعل لذلك علامةً، فإذا آمَنَ منهم البعضُ
ولم يؤمِنِ البعضُ، صار مَنزِلُ مَن لم يؤمِنْ كالمنقولِ إلى المؤمنينَ؛ فسُمِّيَ ذلك ميراثًا لهذا الوجهِ .
الثاني: أنَّ انتقالَ الجنَّةِ إليهم بدونِ مُحاسَبةٍ ومعرفةٍ بمقاديرِه يشبِهُ انتقالَ المالِ إلى الوارثِ.
الثالثُ: أنَّ الجنَّةَ كانت مسكَنَ أبينا آدمَ عليه السَّلامُ، فإذا انتقلَت إلى أولادِه صار ذلك شبيهًا بالميراثِ .
الرابعُ: أنَّه ذكَر لفظَ الوراثةِ؛ لكونِها أقوَى الأسبابِ في التمليكِ والاستحقاقِ،
مِن حيثُ إنَّها لا تُعقَبُ بفسخٍ، ولا استرجاعٍ، ولا تبطلُ بردٍّ وإسقاطٍ .
الخامسُ: أنَّ الأتقياءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهم يومَ القيامةِ قد انقضَتْ أعمالُهم، وثمرَتُها باقيةٌ
وهي الجنَّةُ، فإذا أدخَلَهم الجنَّةَ فقَدْ أورَثَهم مِنْ تَقْواهم كما يورثُ الوارِثُ المالَ مِنَ المُتَوَفَّى .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ افتِتاحٌ بَديعٌ؛ لأنَّه مِن جوامِعِ الكَلِمِ؛ فإنَّ الفلاحَ غايةُ كلِّ ساعٍ إلى عمَلِه؛ فالإخبارُ
بفَلاحِ المُؤمِنينَ دونَ ذِكْرِ مُتعلَّقٍ بفِعْلِ الفَلاحِ: يَقْتضي في المَقامِ الخِطابيِّ تَعميمَ ما به الفَلاحُ المطلوبُ، فكأنَّه قِيلَ:
قد أفلَحَ المُؤمِنون في كلِّ ما رَغِبوا فيه. وتَضمَّنَ بِشارةً برِضَا اللهِ عنهم، ووَعدًا بأنَّ اللهَ مُكمِّلٌ لهم
ما يَتطلَّبونَه مِن خَيرٍ ، فحُذِفَ مُتعلِّقُ أَفْلَحَ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم أفْلَحوا فَلاحًا كامِلًا .
- وجاءتْ كَلِمةُ قَدْ هاهنا؛ لإفادةِ ثُبوتِ ما كان مُتوقَّعَ الثُّبوتِ مِن قَبْلُ. والإخبارُ به على صِيغَةِ الماضي أَفْلَحَ
إنْ أُرِيدَ بالإفلاحِ حَقيقةُ الدُّخولِ في الفَلاحِ الَّذي لا يَتحقَّقُ إلَّا في الآخرةِ؛ فالإخبارُ به على صيغةِ الماضي
للدَّلالةِ على تَحقُّقِه لا مَحالةَ بتَنزيلِهِ مَنزِلةَ الثَّابتِ. وإنْ أُرِيدَ كونُهم بحالٍ تَسْتتبِعُه الْبَتَّةَ؛ فصيغةُ الماضي
في مَحلِّها . وقيل: وَجْهُ تَوكيدِ هذا الخبرِ هنا بحَرفِ (قد) -الذي إذا دخَلَ على الفِعلِ الماضي أفادَ التَّحقيقَ،
أي: التوكيدَ-: أنَّ المُؤمِنين كانوا مُؤمِّلينَ مِثلَ هذه البِشارةِ فيما سبَقَ لهم مِن رَجاءِ فَلاحِهم؛ فكانوا لا يَعرِفون
تَحقُّقَ أنَّهم أَتَوا بما أرْضى رَبَّهم، فلمَّا أُخْبِروا بأنَّ ما تَرجَّوه قد حصَلَ، حُقِّقَ لهم بحَرفِ التَّحقيقِ، وبفِعْلِ المُضِيِّ
المُستعمَلِ في معنى التَّحقُّقِ؛ فالإتيانُ بحَرفِ التَّحقيقِ لتَنزيلِ تَرقُّبِهم إيَّاهُ -لفَرطِ الرَّغبةِ والانتظارِ- مَنزِلةَ الشَّكِّ في حُصولِه .
- وفي قولِه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ نِيطَ الفَلاحُ بوَصفِ الإيمانِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه السَّببُ الأعظمُ في الفَلاحِ،
فإنَّ الإيمانَ وَصفٌ جامِعٌ للكَمالِ؛ لتَفرُّعِ جَميعِ الكَمالاتِ عليه .
2- قوله تعالى:
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
- قولُه: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ أُضِيفَتِ الصَّلاةُ إليهم؛ لأنَّ الصَّلاةَ دائرةٌ بين المُصلِّي والمُصلَّى له؛ فالمُصلِّي هو المُنتفِعُ
بها وَحْدَه، وهي عُدَّتُه وذَخيرَتُه، فهي صَلاتُه، وأمَّا المُصلَّى له فغَنِيٌّ مُتعالٍ عن الحاجةِ إليها، والانتفاعِ بها .
- وإجْراءُ الصِّفاتِ على الْمُؤْمِنُونَ بالتَّعريفِ بطَريقِ الموصولِ، وبتَكريرِه؛ للإيماءِ إلى وَجْهِ فَلاحِهم وعِلَّتِه، أي:
أنَّ كلَّ خَصلةٍ مِن هاتِهِ الخِصالِ هي مِن أسبابِ فَلاحِهم؛ ولمَّا كانت كلُّ خَصلةٍ مِن هذه الخِصالِ تُنبِئُ عن رُسوخِ
الإيمانِ مِن صاحِبِها، اعْتُبِرَتْ لذلك سَببًا للفَلاحِ، على أنَّ ذِكْرَ عِدَّةِ أشياءَ لا يَقْتَضي الاقتصارَ عليها في الغرضِ المذكورِ .
- وتَقييدُ الخُشوعِ بكَونِه في الصَّلاةِ؛ لقَصْدِ الجَمْعِ بين وَصْفِهم بأداءِ الصَّلاةِ وبالخُشوعِ. وذُكِرَ مع الصَّلاةِ؛
لأنَّ الصَّلاةَ أوْلى الحالاتِ بإثارةِ الخُشوعِ وقُوَّتِه؛ ولذلك قُدِّمَت، ولأنَّه بالصَّلاةِ أعلَقُ؛ فإنَّ الصَّلاةَ خُشوعٌ
للهِ تعالى وخُضوعٌ له، ولأنَّ الخُشوعَ لمَّا كان للهِ تعالى كان أوْلى الأحوالِ به حالَ الصَّلاةِ؛ لأنَّ المُصلِّيَ
يُناجِي ربَّهُ، فيُشعِرُ نَفْسَه أنَّه بين يدَيْ رَبِّه، فيَخشَعُ له؛ ولهذا الاعتبارِ قُدِّمَ هذا الوَصْفُ على بَقيَّةِ
أوصافِ المُؤمِنينَ، وجُعِلَ مُواليًا للإيمانِ؛ فقد حصَلَ الثَّناءُ عليهم بوَصفينِ .
- وأيضًا قُدِّمَ فِي صَلَاتِهِمْ على خَاشِعُونَ؛ للاهتمامِ بالصَّلاةِ، وللإيذانِ بأنَّ لهم تَعلُّقًا شَديدًا بالصَّلاةِ؛ لأنَّ شأْنَ
الإضافةِ أنْ تُفِيدَ شِدَّةَ الاتِّصالِ؛ لأنَّها على مَعْنى لامِ الاختصاصِ، فلو قيل: (الَّذين إذا صَلَّوا خَشَعُوا)
فات هذا المعنى. وأيضًا لم يتأَتَّ وَصْفُهم بكَونِهم خاشعينَ إلَّا بُواسطةِ كَلمةٍ أُخرى، نَحْو: (كانوا خاشِعينَ)،
وإلَّا يَفُتْ ما تدُلُّ عليه الجُملةُ الاسميَّةُ مِن ثَباتِ الخُشوعِ لهم ودَوامِه، أي:
كونِ الخُشوعِ خُلُقًا لهم، بخِلافِ نَحوِ: (الَّذين خَشَعوا)؛ فحصَلَ الإيجازُ، ولم يَفُتِ الإعجازُ .
3- قولُه تعالى
: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
- قولُه: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ فيه إعادةُ اسمِ الموصولِ وَالَّذِينَ دونَ اكتفاءٍ بعَطْفِ صِلَةٍ
على صِلَةٍ؛ للإشارةِ إلى أنَّ كلَّ صِفَةٍ مِن الصِّفاتِ مُوجِبةٌ للفَلاحِ، فلا يُتَوهَّمُ أنَّهم لا يُفْلِحون حتَّى يَجْمَعوا
بين مَضامينِ الصَّلاةِ كلِّها، ولِمَا في الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ مِن زِيادةِ تَقريرٍ للخَبرِ في ذِهْنِ السَّامعِ .
- والتَّعبيرُ بـ مُعْرِضُونَ أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: (لا يَلْهُون)، مِن وُجوهٍ؛ وهي: جَعْلُ الجُملةِ اسميَّةً،
وبِناءُ الحُكْمِ على الضَّميرِ، والتَّعبيرُ عنه بالاسمِ، وتَقديمُ الصِّلةِ عليه، وإقامةُ الإعراضِ مَقامَ التَّركِ؛
لِيَدُلَّ على تَباعُدِهم عنه رأْسًا؛ مُباشرةً وتَسبُّبًا، ومَيلًا وحُضورًا .
4- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَصَفَهم بذلك بعْدَ وَصْفِهم بالخُشوعِ في الصَّلاةِ؛ لِيدُلَّ على
أنَّهم بَلَغوا الغايةَ في القِيامِ على الطَّاعاتِ البَدنيَّةِ والماليَّةِ، والتَّجنُّبِ عن المُحرَّماتِ، وسائرِ
ما تُوجِبُ المُروءةُ اجتِنابَه . أو لكَثرةِ التَّآخي بينَ الصلاةِ والزكاةِ في القُرآنِ، وإنَّما فُصِلَ بينهما
هنا بالإعراضِ عن اللَّغوِ؛ لأنَّ اللَّغوَ ممَّا يَخطُرُ بالبالِ عندَ ذِكْرِ الصَّلاةِ بجامِعِ الضِّدِّيَّةِ .
- وعبَّرَ بقولِه: فَاعِلُونَ ولم يقُلْ: (مُؤدُّون)؛ لأنَّه لمَّا كانتِ الزَّكاةُ تُوجِبُ زَكاءَ المالِ، كان لَفْظُ (الفِعْلِ)
ألْيقَ به مِن لَفْظِ (الأداءِ)؛ كأنَّه قِيلَ: لأجْلِ زَكاءِ المالِ يَفْعلون ما يَفْعلون، فالمُؤدَّى يَصيرُ زَكاةً بفِعْلِ المُزكِّي.
وفي فَاعِلُونَ إشارةٌ إلى المُداومَةِ ما ليس في الأداءِ؛ تقولُ: هذا فِعْلُه، أي: شأْنُه ودأْبُه وعادَتُه . وقيل:
لا تُسمَّى العينُ المُخرَجةُ زَكاةً، فكان التَّعبيرُ بالفِعْلِ عن إخراجِه أوْلى منه بالأداءِ . وقيل: إنَّما أُوثِرَ
هنا الاسمُ الأعَمُّ -وهو فاعِلونَ-؛ لأنَّ مادَّةَ (ف ع ل) مُشْتهَرةٌ في إسداءِ المعروفِ، واشْتُقَّ منها الفَعَالُ .
5- قولُه تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ذُكِرَ حِفْظُ الفَرجِ
هنا عَطْفًا على الإعراضِ عن اللَّغوِ؛ لأنَّ مِن الإعراضِ عن اللَّغوِ تَرْكَ اللَّغوِ بالأحرى؛ لأنَّ زَلَّةَ الصَّالحِ قد تأْتيهِ مِن انفلاتِ
أحَدِ هذينِ العُضوينِ (اللسانِ والفرجِ) مِن جِهةِ ما أُودِعَ في الجِبِلَّةِ مِن شَهوةِ استعمالِهما . أو أُفرِدَ ذلك بالذِّكْرِ بعْدَ
تَعميمِ قولِه:
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ؛ لأنَّ المُباشَرةَ أشْهَى الملاهي إلى النَّفسِ، وأعظَمُها خَطرًا .
- قولُه:
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَعليلٌ لِمَا يُفيدُه الاستثناءُ مِن عدَمِ حِفْظِ فُروجِهم مِنهنَّ ؛ فالفاءُ في فَإِنَّهُمْ تَفريعٌ
للتَّصريحِ على مَفهومِ الاستِثناءِ الَّذي هو في قُوَّةِ الشَّرطِ، فأشبَهَ التَّفريعُ عليه جَوابَ الشَّرطِ، فقُرِنَ بالفاءِ؛
تَحقيقًا للاشتراطِ. وزِيدَ ذلك التَّحذيرُ تَقريرًا بأنْ فُرِّعَ عليه فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ؛
لأنَّ داعيةَ غَلبةِ شَهوةِ الفَرْجِ على حِفظِ صاحِبِه إيَّاهُ غَريزةٌ طبيعيَّةٌ، يُخْشَى أنْ تَتغلَّبَ على حافِظِها .
- وأُتِيَ لهم باسمِ الإشارةِ (أولئك) في قولِه:
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ؛ لزِيادةِ تَمييزِهم بهذه الخَصلةِ الذَّميمةِ؛
ليَكونَ وَصْفُهم بالعُدوانِ مَشهورًا مُقرَّرًا. وتَوسيطُ ضَميرِ الفصلِ (هُم)؛ لتَقويةِ الحُكْمِ .
6- قولُه تعالى
: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ فيه جَمْعُ الأماناتِ باعتبارِ تَعدُّدِ أنواعِها، وتَعدُّدِ القائمينَ
بالحِفْظِ؛ تَنصيصًا على العُمومِ . والجَمْعُ بين رَعْيِ الأماناتِ ورَعْيِ العهدِ؛ لأنَّ العَهدَ كالأمانةِ؛ لأنَّ الَّذي
عاهَدَك قدِ ائتَمَنَك على الوفاءِ بما يَقْتَضيه ذلك العَهدُ. وذِكْرُهما عقِبَ أداءِ الزَّكاةِ؛ لأنَّ الزَّكاةَ
أمانةُ اللهِ عندَ الَّذين أنعَمَ عليهم بالمالِ؛ ولذلك سُمِّيَت: حَقَّ اللهِ، وحَقَّ المالِ، وحَقَّ المِسكينِ .
7- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ فيه تَكرارُ ذِكْرِ الصَّلاةِ أوَّلًا وآخِرًا؛ لأنَّهما ذِكْرانِ مُختلفانِ
وليس بتَكريرٍ؛ فالخُشوعُ في الصَّلاةِ غيرُ المُحافَظةِ عليها، حيث وُصِفُوا أوَّلًا بالخُشوعِ في صَلاتِهم،
وآخِرًا بالمُحافَظةِ عليها؛ وذلك ألَّا يَسْهُوا عنها، ويُؤدُّوها في أوقاتِها، ويُقِيموا أركانَها،
ويُوكِلُوا نُفوسَهم بالاهتمامِ بها، وبما يَنْبَغي أنْ تَتِمَّ به أوصافُها. وأيضًا وُحِّدَتْ أوَّلًا؛ لِيُفادَ
الخُشوعُ في جِنْسِ الصَّلاةِ أيَّ صَلاةٍ كانت، وجُمِعَت آخِرًا؛ لِتُفادَ المُحافظةُ على أعدادِها .
- وأيضًا حصَلَ بذلك تَكريرُ ذِكْرِ الصَّلاةِ؛ تَنويهًا بها، ورَدًّا للعجُزِ على الصَّدرِ؛ تَحْسينًا للكلامِ
الَّذي ذُكِرَت فيه تلك الصِّفاتُ؛ لِتَزدادَ النفْسُ قَبولًا لِسَماعِها ووَعْيِها، فتَتأسَّى بها .
- والمُحافَظةُ في قولِه: يُحَافِظُونَ مُستعمَلةٌ في المُبالَغةِ في الحِفْظِ، وأتَى بلَفْظِ الفِعْلِ المُضارِعِ
يُحَافِظُونَ، ولم يقُلْ: (مُحافِظون)؛ لِمَا في الصَّلاةِ منَ التَّجدُّدِ والتَّكرُّرِ، وهو السِّرُّ في جَمْعِها.
وفصَلَ المحافظةَ على الصلاةِ عن الخشوعِ فيها، المذكورِ في قولِه: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
[المؤمنون: 2] ؛ للإيذانِ بأنَّ كلًّا منهما فَضيلةٌ مُستقِلَّةٌ على حِيالِها، ولو قُرِنَا في الذِّكْرِ لَرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ
مَجموعَ الخُشوعِ والمُحافظةِ فَضيلةٌ واحدةٌ، وفي تَصديرِ الأوصافِ وخَتْمِها بأمْرِ الصَّلاةِ: تَعظيمٌ لِشأْنِها .
8- قولُه تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ جِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِيُفيدَ أنَّ جَدارتَهم بما سيُذْكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ
حَصَلَت مِن اتِّصافِهم بتلك الصِّفاتِ المُتقدِّمةِ ، وإيثارُه على الإضمارِ؛ للإشعارِ بامتيازِهم بها عن غَيرِهم، ونُزولِهم
مَنزِلةَ المُشارِ إليه حِسًّا، وما فيه مِن مَعنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ طَبقتِهم، وبُعْدِ دَرجتِهم في الفضلِ والشَّرفِ .
- وتَوسيطُ ضَميرِ الفصلِ (هُم)؛ لتَقويةِ الخَبرِ عنهم بذلك. أو أفادَ تَعريفُ الخبرِ وتَوسيطُ ضَميرِ الفصلِ الحَصْرَ .
- وحُذِفَ مَعمولُ الْوَارِثُونَ؛ لِيَحصُلَ إبهامٌ وإجمالٌ، فيَترقَّبَ السَّامِعُ بَيانَه؛ فبُيِّنَ بقولِه: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ قَصْدًا
لتَفخيمِ هذه الوِراثةِ وتأْكيدِها . والإتيانُ في البَيانِ باسمِ الموصولِ الَّذِينَ الَّذي شأْنُه أنْ يَكونَ مَعلومًا للسَّامعِ بمَضمونِ
صِلَتِه؛ إشارة إلى أنَّ تَعريفَ الْوَارِثُونَ تَعريفُ العَهْدِ، كأنَّه قِيلَ: هم أصحابُ هذا الوَصفِ المَعْروفونَ به .
سورةُ المُؤْمِنونَ :::::الآيات (12-16) :::::غريب الكلمات:
سُلَالَةٍ: أي: ما يُسَلُّ مِن كُلِّ تُربةٍ، والسُّلالةُ: فُعالةٌ مِن السَّلِّ، وهو استخراجُ
الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، ومنه قولُهم: سلَلْتُ الشَّعرَ من العَجينِ فانسَلَّ .
نُطْفَةً: النُّطفةُ: هي المنيُّ ، وقيل: الماءُ الصَّافي، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .
قَرَارٍ مَكِينٍ: أي: مُستَقَرٍّ حصينٍ، وهو الرَّحِمُ، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ، والمكينُ: المُتمكِّنُ .
عَلَقَةً: العَلَقةُ: الدَّمُ الجامِدُ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ .
مُضْغَةً: المُضْغةُ: القِطعةُ الصَّغيرةُ مِن اللَّحمِ قَدْرَ ما يُمضَغُ، وأصلُها: مِن المَضْغِ .
المعنى الإجمالي:
يخبِرُ اللهُ تعالى أنه خلَق آدَمَ مِن طينٍ مأخوذٍ مِن جَميعِ الأرضِ، ثمَّ جعل سبحانه وتعالى ابنَ آدم نطفةً
تَستَقِرُّ محفوظةً في رحمِ المرأةِ، ثمَّ صَيَّر اللهُ تعالى النُّطفةَ قِطعةَ دَمٍ، فجعَلها قِطعةَ لَحمٍ صغيرةٍ،
فجعَلها عِظامًا مختلفةً، وشَكَّلها ذاتَ رأسٍ ويدينِ ورِجلَينِ، ثم ألبس تلك العِظامَ لَحمًا، ثمَّ أنشَأه
خَلقًا آخَرَ بأن نفخَ فيه الرُّوحَ، فتبارَكَ اللهُ الذي أحسَنَ وأتقنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه!
ثمَّ يُذكِّرُ الله البشرَ أنَّهم بعدَ ذلك سيموتونَ، ثمَّ بعدَ موتِهم سيُبْعثونَ يومَ القيامةِ مِن قُبورِهم؛ للحِسابِ والجَزاءِ.
تفسير الآيات: :::
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ سبحانه بالعباداتِ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، والاشتغالُ بعبادةِ الله لا يَصِحُّ إلَّا بعد معرفةِ
الإلهِ الخالقِ؛ لا جرَمَ عقَّبَها بذِكرِ ما يدُلُّ على وجودِه، واتِّصافِه بصفاتِ الجلالِ والوحدانيَّةِ .
وأيضًا لَمَّا ذكر اللهُ تعالى أنَّ المتَّصفينَ بتلك الأوصافِ الجليلةِ هم يَرِثونَ الفِردَوسَ، فتضَمَّنَ
ذلك المعادَ الأُخرويَّ- ذكَرَ النشأةَ الأولى؛ ليستَدِلَّ بها على صِحَّةِ النشأةِ الآخرةِ .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12).
أي: ولقد خلَق اللهُ تعالَى آدَمَ عليه السلامُ مِن طينٍ أُخِذ مِن جميعِ الأرضِ .
كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج: 5] .
وقال سُبحانَه:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7، 8].
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ تعالى خلَقَ آدَمَ مِن قَبضَةٍ قبَضَها مِن جَميعِ الأرضِ، فجاء بنو آدَمَ على قَدْرِ
الأرضِ ، فجاء منهم الأحمَرُ والأبيَضُ، والأسْوَدُ وبيْنَ ذلك، والسَّهلُ والحَزْنُ ، والخَبيثُ والطَّيِّبُ))
.
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13).
أي: ثمَّ جعَلْنا ابنَ آدمَ نُطفةً ، مُستَقِرَّةً محفوظةً في رَحِمِ المرأةِ .
كما قال سُبحانَه:
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات: 20- 22] .
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14).
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.أي: ثمَّ صيَّرْنا النُّطْفةَ قِطعةَ دَمٍ تعْلَقُ في الرَّحمِ .
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.أي: فجعَلْنا قِطعةَ الدَّمِ قِطعةَ لَحمٍ صَغيرةً، لا شَكلَ فيها ولا تَخطيطَ
.
كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج: 5] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثَنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
وهو الصَّادِقُ المَصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أمِّه أربعينَ يَومًا،
ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك )) . ::::
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا.
أي: فجعَلْنا قِطعةَ اللَّحمِ عِظامًا مُختَلِفةً، شَكَّلْناها ذاتَ رأسٍ ويدينِ ورِجلَينِ .
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا.أي: فألبَسْنا تلك العِظامَ لَحمًا .
ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ.أي: ثمَّ نفَخْنا فيه الرُّوحَ، فتحَوَّلَ إنسانًا حَيًّا، وبشَرًا سَوِيًّا .
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. ::أي: فتعاظَمَ وكثُرَ خَيرُ اللهِ أتقنِ الصَّانِعينَ، الذي أتْقَنَ كلَّ شَيءٍ خلَقَه !
كما قال تعالى:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7].
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّه كان إذا سجَدَ قال: ((اللهمَّ لك
سجَدْتُ، وبك آمَنْتُ، ولك أسلَمْتُ، سَجَد وَجْهي للَّذي خلقَه وصَوَّره، وشقَّ سَمْعَه وبصَرَه، تبارك اللهُ أحسَنُ الخالقِينَ ))
.
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15).
أي: ثمَّ إنَّكم -أيُّها النَّاسُ- بعد أنْ خلَقْناكم وأحيَيناكم ستَموتونَ، فتَعودونَ تُرابًا كما كُنتُم .
كما قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] .
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16).
أي: ثمَّ إنَّكم -أيُّها النَّاسُ- ستُبعَثونَ يومَ القيامةِ مِنَ التُّرابِ؛ للحِسابِ والجَزاءِ .
كما قال تعالى:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى
* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36 - 40] .
الفوائد التربوية:
قَولُ الله تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ فيه تنبيهٌ للإنسانِ أن يكون الموتُ نُصبَ عينَيه، ولا يَغفُلَ عن
ترَقُّبِه؛ فإنَّ مآلَه إليه، لأنَّ الإنسانَ في الحياةِ الدُّنيا يسعَى فيها غايةَ السَّعيِ، ويَكِدُّ ويجمَعُ حتى كأنَّه مُخلَّدٌ
فيها، فنبَّه بذِكرِ الموتِ مؤكِّدًا مبالِغًا فيه؛ لِيُقصِرَ، ولِيَعلَمَ أنَّ آخِرَه إلى الفناءِ، فيعمَلَ لدارِ البقاءِ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فيه ردٌّ على مَن زعَمَ أنَّ الإنسانَ هو الرُّوحُ فقط، وقد بيَّن تعالى
أنَّ الإنسانَ مركَّبٌ مِن هذه الأشياءِ. وفيه ردٌّ أيضًا على الفلاسِفةِ في زَعمِهم أنَّ الإنسانَ شَيءٌ لا ينقَسِمُ .
2- قال الله تعالى:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً مِن إعجازِ القُرآنِ العِلميِّ تسميةُ هذا الكائِنِ باسمِ العَلَقةِ؛
فإنَّه وَضعٌ بديعٌ لهذا الاسمِ؛ إذ قد ثبت في عِلمِ التَّشريحِ أنَّ هذا الجزءَ الذي استحالت إليه النُّطفةُ
هو كائنٌ له قوَّةُ امتصاصِ القُوَّةِ مِن دَمِ الأمِّ؛ بسبَبِ التِصاقِه بعروقٍ في الرَّحِمِ تدفَعُ إليه قُوَّةَ الدَّمِ .
3- إن قيل: كيف الجمعُ بينَ قَولِه:
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وقَولِه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] ؟
فالجوابُ: أنَّ الخَلقَ يكونُ بمعنى الإيجادِ، ولا مُوجِدَ سِوى اللهِ، ويكونُ بمعنى التَّقديرِ، كقولِ زُهَيرٍ :
وبعضُ القَومِ يَخلُقُ ثمَّ لا يَفري .
فهذا المرادُ هاهنا: أنَّ بني آدَمَ قد يصوِّرونَ ويُقَدِّرونَ ويَصنَعونَ الشَّيءَ؛ فاللهُ خَيرُ
المصوِّرينَ والمقَدِّرينَ. وقال الأخفَشُ: الخالقونَ هاهنا هم الصَّانِعونَ، فاللهُ خيرُ الخالِقينَ .
4- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ فيه سؤالٌ:
قد يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ نفيُ عذابِ القبرِ؛ لأنَّه لم يَذكُرْ بينَ الأمْرينِ الإحياءَ في القبرِ والإماتةَ؟
الجوابُ مِن وجوهٍ:
الوجه الأول: أنَّه ليس في ذِكرِ الحياتينِ نفيُ الثالثةِ.
الوجه الثاني: أنَّ الغرضَ ذِكرُ هذه الأجناسِ الثلاثةِ -الإنشاءُ والإماتةُ
والإعادةُ-، والذي تُرِكَ ذِكرُه فهو مِن جنسِ الإعادةِ .
الوجه الثالث: أنَّه عيَّن البعثَ الأكبرَ التامَّ الذي هو محطُّ الثوابِ
والعقابِ؛ لأنَّ مَن أقرَّ به أقرَّ بما هو دونَه مِن الحياةِ في القبرِ وغيرِها .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ شُروعٌ في بَيانِ مَبدأِ خَلْقِ الإنسانِ، وتَقلُّبِه في أطوارِ الخِلْقةِ،
وأدوارِ الفِطْرةِ بَيانًا إجْماليًّا . والواوُ في وَلَقَدْ عاطفةٌ غرَضًا على غرَضٍ، ويُسمَّى عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ،
فالجُملةُ استئنافٌ؛ لأنَّها عَطْفٌ على جُملةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] الَّتي هي ابتدائيَّةٌ، وهذا شُروعٌ في
الاستدلالِ على انفرادِ اللهِ تعالى بالخلْقِ وبَعظيمِ القُدرةِ الَّتي لا يُشارِكُه فيها غيرُه، وعلى أنَّ الإنسانَ مَربوبٌ للهِ تعالى
وَحْدَه، والاعتبارِ بما في خَلْقِ الإنسانِ وغَيرِه مِن دلائلِ القُدرةِ ومِن عَظيمِ النِّعمةِ؛ فالمَقصودُ منه إبطالُ الشِّركِ،
ويَتضمَّنُ ذلك امتنانًا على النَّاسِ بأنَّه أخرَجَهم مِن مَهانةِ العدَمِ إلى شَرفِ الوُجودِ؛ وذلك كلُّه لِيَظهَرَ
الفَرقُ بين فَريقِ المُؤمِنينَ الَّذين جَرَوا في إيمانِهم على ما يَلِيقُ بالاعترافِ بذلك، وبينَ فَريقِ
المُشرِكين الَّذين سَلَكوا طَريقًا غيرَ بَيِّنَةٍ، فحادُوا عن مُقْتَضى الشُّكْرِ بالشِّركِ .
- وفي قولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا تأْكيدُ الخَبرِ بلامِ القَسمِ وحَرْفِ التَّحقيقِ (قد)، وهو مُراعًى فيه
التَّعريضُ بالمُشرِكين المُنزَّلينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ هذا الخَبرَ؛ لِعَدمِ جَرْيِهم على مُوجَبِ العلْمِ .
2- قوله تعالى
: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
- قولُه: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ ...، أي: وَضْعَناها فيه؛ حِفْظًا لها؛ ولذلك غُيِّرَ في الآيةِ التَّعبيرُ
عن فِعْلِ الخَلْقِ إلى فِعْلِ الجَعْلِ المُتعدِّي بـ (في) بمعنى الوَضْعِ .
- وثُمَّ للتَّرتيبِ الرُّتْبِيِّ؛ لأنَّ ذلك الجعلَ أعظمُ مِنْ خلقِ السُّلالَةِ .
- والضَّميرُ في قولِه: جَعَلْنَاهُ عائدٌ على ابنِ آدَمَ وإنْ كان لم يُذْكَرْ؛ لِشُهرةِ الأمْرِ،
أو على حَذْفِ مُضافٍ، أي: ثُمَّ جعَلْنا نَسْلَه؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ .
- قولُه: فِي قَرَارٍ مَكِينٍ المكينُ، أي: الثابِتُ في المكانِ بحيث لا يُقْلَعُ مِن مكانِه؛ فمُقْتَضى الظَّاهرِ
أنْ يُوصَفَ بالمَكينِ الشَّيءُ الحالُّ في المكانِ الثَّابتِ فيه، وقد وقَعَ هنا وَصْفًا لنَفْسِ المكانِ الَّذي استقرَّتْ
فيه النُّطفةُ؛ للمُبالَغةِ، وحَقيقتُه: مَكينٌ حالُه . وأيضًا عُبِّرَ عن الرَّحمِ بالقَرارِ الَّذي هو مَصدرٌ؛ مُبالَغةً .
3- قولُه تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فيه اخْتِلافُ حُروفِ العَطْفِ (ثمَّ - الفاء)؛ لِتَفاوُتِ الاستحالاتِ
. وعُطِفَ جَعْلُ العَلَقةِ مُضغةً بالفاءِ؛ لأنَّ الانتقالَ مِن العَلقةِ إلى المُضْغةِ يُشْبِهُ تَعقيبَ شَيءٍ عن شَيءٍ؛ إذِ
اللَّحمُ والدَّمُ الجامِدُ مُتقارِبانِ، فتَطوُّرُهما قَريبٌ، وإنْ كان مُكْثُ كلِّ طَورٍ مُدَّةً طويلةً .
وجُمِعَ (عظام)؛ لاختلافِها في الهيئةِ والصَّلابةِ .
- وعُطِفَ بـ ثُمَّ في قولِه: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ؛ لكَمالِ التَّفاوُتِ بين الخَلْقينِ
.
- قولُه: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه؛ لأنَّ (تبارَكَ) لمَّا حُذِفَ مُتعلِّقُه كان عامًّا،
فيَشمَلُ عَظمةَ الخيرِ في الخَلْقِ وفي غَيرِه. وكذلك حَذْفُ مُتعلِّقِ (الخالقينَ) يَعُمُّ خَلْقَ الإنسانِ، وخلْقَ غيرِه كالجبالِ
والسَّمواتِ. والفاءُ في فَتَبَارَكَ ... تَفريعٌ على حِكايةِ هذا الخَلْقِ العجيبِ بإنشاءِ الثَّناءِ على اللهِ بأنَّه أحسَنُ الخالِقِينَ .
- وأيضًا في قولِه: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الْتِفاتٌ إلى الاسمِ الجليلِ؛ لتَربيةِ المَهابَةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ،
والإشعارِ بأنَّ ما ذُكِرَ مِن الأفاعيلِ العجيبةِ مِن أحكامِ الأُلوهيَّةِ، وللإيذانِ بأنَّ حَقَّ كلِّ مَن سمِعَ ما فُصِّلَ
مِن آثارِ قُدرتِه عَزَّ وعَلا أو لَاحَظَهُ: أنْ يُسارِعَ إلى التَّكلُّمِ به؛ إجلالًا وإعظامًا لشُؤونِه تعالى .
- وأيضًا في قوله:
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ما يُعرَفُ بـ «ائتِلافِ الفاصِلةِ» .
قولُه تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ إدماجٌ في أثناءِ تَعدادِ الدَّلائلِ على تَفرُّدِ اللهِ بالخَلْقِ على اختلافِ أصنافِ
المخلوقاتِ؛ لِقَصدِ إبطالِ الشِّركِ. و(ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ أهميَّةَ التَّذكيرِ بالموتِ في هذا المَقامِ أقْوى مِن
أهميَّةِ ذِكْرِ الخَلقِ؛ لأنَّ الإخبارَ عن مَوتِهم تَوطِئةٌ للجُملةِ بَعْدَه -وهي قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ- وهو
المقصودُ. وهذه الجُملةُ لها حُكْمُ الجُملةِ الابتدائيَّةِ، وهي مُعترِضةٌ بين الَّتي قبْلَها وبين جُملةِ:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ [المؤمنون: 17] . ولِكَونِ (ثمَّ) لم تُفِدْ مُهلةً في الزَّمانِ هنا، صُرِّحَ بالمُهلةِ في قولِه: بَعْدِ ذَلِكَ .
- وقيل: لَمَّا كانت إماتةُ ما صار هكذا -بعد القوَّةِ العظيمةِ والإدراكِ التامِّ- من الغرائبِ، وكان وجودُها فيه
وتَكرارُها عليه في كلِّ وقتٍ قد صيَّرها أمرًا مألوفًا، وشيئًا ظاهرًا مكشوفًا، وكان عُتُوُّ الإنسانِ على خالِقِه
وتمرُّدُه ومخالفتُه لأمرِه -نسيانًا لهذا المألوفِ- كالإنكارِ له؛ أشار إلى ذلك بقولِه تعالى مُسبِّبًا مبالغًا في
التأكيدِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ، ولَمَّا كان الممكِنُ ليس له مِن ذاتِه إلا العَدَمُ، نزع الجارَّ فقال: بَعْدَ ذَلِكَ أي:
الأمرِ العظيمِ مِن الوصفِ بالحياةِ والمدِّ في العمُرِ في آجالٍ مُتفاوتةٍ لَمَيِّتُونَ .
- قولُه: لَمَيِّتُونَ أي: لَصائِرونَ إلى الموتِ لا مَحالةَ؛ كما يُؤْذِنُ به اسميَّةُ الجُملةِ، و(إنَّ)، واللَّامُ، وصيغةُ النَّعتِ (مَيِّت)
الدَّالَّةُ على الثُّبوتِ دونَ الحُدوثِ الذي تُفيدُه صيغةُ الفاعِلِ (مائِت) ؛ ففي قولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ بُولِغَ في تأْكيدِ
ذلك بـ (إنَّ) وباللَّامِ؛ تَنبيهًا للإنسانِ أنْ يكونَ الموتُ نُصْبَ عَينَيه، ولم تُؤكَّدْ جُملةُ البَعثِ إلَّا بـ (إنَّ)؛ لأنَّه أُبرِزَ في صورةِ
المقطوعِ به الَّذي لا يُمكِنُ فيه نِزاعٌ، ولا يَقْبَلُ إنكارًا، وأنَّه حَتْمٌ لا بُدَّ مِن كِيانِه، فلم يُحتَجْ إلى تَوكيدٍ ثانٍ .
- وقيل: أُكِّدَ هذا الخبرُ بـ (إنَّ) واللَّامِ مع كَونِهم لا يَرتابونَ فيه؛ لأنَّهم لمَّا أعْرَضُوا عن التَّدبيرِ فيما بعْدَ هذه الحياةِ،
كانوا بمَنزِلةِ مَن يُنكِرونَ أنَّهم يَموتونَ، وتَوكيدُ خَبرِ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ؛ لأنَّهم يُنكِرونَ البَعثَ،
ويكونُ ما ذُكِرَ قبْلَه مِن الخَلْقِ الأوَّلِ دَليلًا على إمكانِ الخَلْقِ الثَّاني؛ فلم يُحتَجْ إلى تَقويةِ التَّأكيدِ بأكثَرَ مِن حَرفِ
التَّأكيدِ وإنْ كان إنكارُهم البعثَ قَوِيًّا . وقيل: لم يُخْلِه عن التأكيدِ؛ لكونِه على خلافِ العادةِ .
- وقيل: أُكِّدَ قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ باللَّامِ دونَ قولِه بَعْدَه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، مع أنَّ المذكورينَ يُنكِرون
البعثَ دونَ الموتِ؛ لأنَّه لمَّا كان العَطفُ بـ (ثُمَّ) المُحتاجُ إليه هنا يَقْتَضي الاشتراكَ في الحُكْمِ، أغْنَى به عن التَّأكيدِ باللَّامِ
.
وقيل: لأنَّ المقصودَ بذِكرِ الموتِ والبعثِ هو الإخبارُ بالجزاءِ والمَعادِ، وأوَّلُ ذلك هو الموتُ؛ فنبَّه
على الإيمانِ بالمعادِ والاستعدادِ لِما بعد الموتِ، وهو إنَّما قال تُبْعَثُونَ فقط، ولم يقُلْ (تُجازَون)،
لكن قد عُلِمَ أنَّ البعثَ للجزاءِ، وأيضًا ففيه تنبيهٌ على قهرِ الإنسانِ وإذلالِه .
- وقيل: دخَلَتِ اللَّامُ في قولِه: لَمَيِّتُونَ، ولم تَدخُلْ في تُبْعَثُونَ؛ لأنَّ اللَّامَ مُخلِّصةٌ المُضارِعَ للحالِ غالبًا، فلا
تُجامِعُ يومَ القيامةِ؛ لأنَّ إعمالَ تُبْعَثُونَ في الظَّرفِ المُستقبَلِ تُخلِّصُه للاستقبالِ، فتُنافي الحالَ .
- قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ... فيه نَقْلُ الكلامِ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ على طَريقةِ الالتفاتِ، ونُكْتَتُه هنا:
أنَّ المقصودَ التَّذكيرُ بالموتِ وما بَعْدَه على وَجْهِ التَّعريضِ بالتَّخويفِ، وإنَّما يُناسِبُه الخِطابُ .
- وقولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ... فيه التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ، وما فيه مِن
إليه، وبُعْدِ مَنزِلَتِه في الفَضلِ والكَمالِ، وكونِه بذلك مُمْتازًا، مُنزَّلًا مَنزِلةَ الأُمورِ الحِسِّيَّةِ .
4- قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
- الآياتُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ فيها مِن فُنونِ البلاغةِ:
ما يُعرَفُ بالمُخالَفةِ في حُروفِ العطفِ؛ ففي حُروفِ العطفِ المُتتابِعةِ في هذه الآياتِ أسرارٌ لَطيفةُ المأْخَذِ،
دَقيقةُ المعنى؛ فقد ذكَرَ تعالى تَفاصيلَ حالِ المخلوقِ في تَنقُّلِه؛ فبدَأَ بالخلْقِ الأوَّلِ وهو خلْقُ آدَمَ من طِينٍ، ولمَّا
عطَفَ عليه الخلْقَ الثَّاني -الَّذي هو خلْقُ النَّسلِ- عطَفَه بـ (ثُم)؛ لِمَا بينهما مِن التَّراخي، وحيث صار إلى
التَّقديرِ الَّذي يَتبَعُ بعْضُه بعضًا مِن غيرِ تراخٍ عطَفَه بالفاءِ، ولمَّا انتهَى إلى جَعْلِه ذَكَرًا أو أُنْثى -وهو آخِرُ
الخَلْقِ- عطَفَه بـ (ثمَّ)، ومعلومٌ أنَّ الزَّمنَ الَّذي تَصيرُ فيه النُّطفةُ عَلَقةً طويلٌ، ولكنَّ الحالتينِ مُتَّصلتانِ؛
فأحيانًا يُنظَرُ إلى طُولِ الزَّمانِ، فيُعطَفُ بـ (ثمَّ)، وأحيانًا يُنظَرُ إلى اتِّصالِ الحالينِ ثانيهما بأوَّلِهما مِن غيرِ
فاصِلٍ بيْنهما بغَيرِهما، فيُعطَفُ بالفاءِ. وأيضًا صَيرورةُ التُّرابِ نُطفةً أمْرٌ مُستبعَدٌ في ظاهِرِ الحالِ، ومِثلُ
ذلك صَيرورةُ النُّطفةِ عَلَقةً؛ لاختِلافِ إحداهما عن الأُخرى اختلافًا ظاهرًا، ولكنْ صَيرورةُ العَلَقةِ مُضْغةً
لا غرابةَ فيه؛ لِتَقارُبِهما؛ فلهذا الوَجْهِ عُطِفَ في قولِه تعالى:
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ [الحج: 5] بـ (ثمَّ)،
وأمَّا في آيةِ (المُؤمِنون): فلُوحِظَتْ أطوارُ الخلْقِ وتباعُدُ الأوقاتِ بيْن كلِّ طَورينِ؛ فاختلافُ العواطفِ بالفاءِ و(ثمَّ)
لِتَفاوُتِ الاستحالاتِ، يعني: أنَّ بعضَها مُستبعَدٌ حُصولُه ممَّا قبْلَه وهو المعطوفُ بـ (ثمَّ)؛ فجُعِلَ الاستبعادُ عقْلًا
أو رُتبةً بمَنزِلةِ التَّراخي والبُعْدِ الحِسِّيِّ؛ لأنَّ حُصولَ النُّطفةِ مِن أجزاءٍ تُرابيَّةٍ غريبٌ جدًّا، وكذا جَعْلُ النُّطفةِ
البيضاءِ ماءً أحمَرَ، بخِلافِ جَعْلِ الدَّمِ لَحْمًا مُشابِهًا له في اللَّونِ والصُّورةِ، وكذا تَصلِيبُها حتَّى تَصيرَ
عَظْمًا؛ لأنَّه قد يَحصُلُ ذلك بالمُكْثِ فيما يُشاهَدُ، وكذا مَدُّ لَحْمِ المُضغةِ عليه لِيَسْتُرَه، وذلك يَقْتَضي
عَطْفَ الجميعِ بـ (ثمَّ) إنْ نُظِرَ لآخِرِ المُدَّةِ وأوَّلِها، ويَقْتَضي العطْفَ بالفاءِ إنْ نُظِرَ لآخِرِها فقطْ
سورةُ المُؤْمِنونَ :::::الآيات (17-22)
غريب الكلمات:
طَرَائِقَ: أي: سمواتٍ، كُلُّ سماءٍ طَريقةٌ، وسُمِّيتْ طرائِقَ؛ لأنَّ بَعضَها فوقَ بَعضٍ، يُقالُ: طارقتُ الشَّيءَ: إذا جعلتَ .
بعضَه فوقَ بعضٍ طُورِ سَيْنَاءَ: اسمُ جبلٍ معروفٍ، وهو الجَبَلُ الذي كَلَّمَ اللهُ مُوسى عليه .وَصِبْغٍ: أي: زيتٍ
يُغمَسُ فيه للائتدامِ، وأصلُ الصِّبغِ: ما يلَوَّنُ به الثَّوبُ، فشُبِّه به ما يُصطَبغُ به؛ وذلك أنَّ الخبزَ يُلوَّنُ بالصِّبغِ إذا غُمِرَ فيه .
الْفُلْكِ: أي: السُّفنِ، واحدُه وجمعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيت فُلكًا؛ لأنها تُدارُ في الماءِ .
المعنى الإجمالي:
يقول الله تعالى: ولقد خلَقْنا فوقَكم -أيُّها الناسُ- سَبعَ سَمواتٍ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، وما كنَّا عن الخَلقِ غافلينَ.
ويخبرُ أنه أنزَل مِنَ السَّماءِ ماءً بقَدْرِ حاجةِ الخلائِقِ، وجَعَل هذا الماءَ ساكنًا في الأرضِ محفوظًا فيها، وهو سبحانَه
على إذهابِه لَقادِرٌ، فأنشَأ بهذا الماءِ للناسِ بَساتينَ النَّخيلِ والأعنابِ، لهم فيها فَواكِهُ كثيرةٌ،
ولهم منها غِذاءٌ يأكُلونَه، وأنشَأ لهم به أيضًا الشجرةَ العظيمةَ المنافعِ شَجرةَ الزَّيتونِ التي تَخرُجُ
مِن جَبَلِ طُورِ «سَيناءَ» يُعصَرُ مِن ثمرِها الذي تُخرِجُه الزَّيتُ، فيُدَّهَنُ ويُؤتَدَمُ به.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا آخَرَ مِن نِعَمِه، فيُخبرُ أنَّ لهم في الأنعامِ ما يعتَبِرونَ به؛ فهو يَسقيهم منها ممَّا في بُطونِها مِنَ
اللَّبَنِ، ولهم فيها مَنافِعُ أُخرى كَثيرةٌ، ومِن لحومِها وشحومِها يأكُلونَ، وعلى الإبِلِ برًّا وعلى السُّفُنِ بحرًا يُحمَلونَ.
تفسير الآيات:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لمَّا ذكَر الله تعالى ابتداءَ خَلقِ الإنسانِ، وانتهاءَ أمرِه؛ ذكَّره بنِعَمِه .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ.
أي: ولقدْ خلَقْنا فَوقَكم -أيُّها النَّاسُ- سَبعَ سَمواتٍ بَعضُها فَوقَ بَعٍض .
كما قال تعالى
: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك: 3] .
وقال سُبحانَه:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [نوح: 15] .
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ.
أي: أحاط عِلمُنا بكلِّ مخلوقٍ، فلا نخلقُ مخلوقًا ونغفُلُ عنه أو ننساه، بل نحفظُه
وندبِّرُ أمرَه، ونقومُ بمصالحِه، ومِن ذلك حفظُ السمواتِ مِن السقوطِ على الأرضِ .
كما قال تعالى:
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .وقال سُبحانَه:
وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
مُناسبةُ عَطفِ إنزالِ ماءِ المطَرِ على جملةِ
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ [المؤمنون: 17] :
أنَّ ماءَ المطَرِ ينزِلُ مِن صَوبِ السَّماءِ، أي: من جهةِ السَّماءِ، وفي إنزالِ ماءِ
المطرِ دَلالةٌ على سَعةِ العِلمِ ودَقيقِ القُدرةِ، وفي ذلك أيضًا مِنَّةٌ على الخَلقِ .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ.
أي: وأنزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بحَسَبِ حاجةِ الخَلقِ وما يَكفيهم، على
المِقدارِ الذي يُصلِحُ ولا يُفسِدُ، فجعَلْناه مَحفوظًا في الأرضِ .
كما قال تعالى:
وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] .
وقال سُبحانَه:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] .
وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ.
أي: وإنَّا على إذهابِ الماءِ الذي أسكَنَّاه في الأرضِ لَقادِرونَ، ولو وقَعَ ذلك لهَلَك النَّاسُ وهلَكَت أراضيهم وزُروعُهم وماشيَتُهم
.
كما قال تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] .
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا نبَّه اللهُ سُبحانَه على عظيمِ نِعمتِه بخَلقِ الماءِ؛ ذكَرَ بعده النِّعَمَ الحاصِلةَ مِن الماءِ، فقال :
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ.
أي: فأوجَدْنا لكم بسَبَبِ الماءِ بَساتينَ مِن نَخيلٍ وأعنابٍ .
كما قال تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10- 11] .
لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.
أي: لكم -أيُّها النَّاسُ- في البَساتينِ فَواكِهُ كَثيرةٌ سِوى النَّخيلِ والأعنابِ، ولكم مِنَ البَساتينِ غذاءٌ تأكُلونَه
.
كما قال تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10، 11].
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20).
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ.
أي: وأنشَأْنا لكم -أيُّها النَّاسُ- شَجرةَ الزَّيتونِ التي تَنبُتُ في جَبَلِ سَيناءَ الذي كَلَّمَ اللهُ عليه مُوسى عليه السَّلامُ .
كما قال تعالى:
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ [النور: 35].
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ.
أي: تُخرِجُ شَجرةُ الزَّيتونِ ثَمَرًا يُعصَرُ منه زَيتٌ يُدَّهَنُ به، ويجعَلُه الآكِلونَ إدامًا يغْمِسونَ فيه خُبزَهم .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
بعد أنَّ ذكَّرَنا سبحانَه بنِعمةِ إنزالِ الماءِ مِن السَّماءِ الذي يُنبِتُ به جنَّاتِ النَّخيلِ والأعنابِ،
والفواكهَ المُختلفةَ والزيتونَ- أردَفَها بذِكرِ النِّعَمِ المختلِفةِ التي سخَّرها لنا مِن خَلقِ الحيوانِ .
وأيضًا لما دَلَّ سبحانَه وتعالى على قُدرتِه بما أحيا بالماءِ حياةً قاصِرةً عن الرُّوحِ، أتبعه ما أفاض عليه به حياةً كاملةً، فقال :
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً.
أي: وإنَّ لكم -أيُّها النَّاسُ- في الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ ما تَعتَبِرونَ به، فتَعرِفونَ أياديَ اللهِ عندَكم، وسابِغَ رَحمتِه،
وانفرادَه بالخَلقِ، وسَعةَ عِلمِه، وعظيمَ قُدرتِه عَزَّ وجَلَّ؛ فتَشكُرونَه ولا تَكفُرونَه .
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا.
أي: نُسقيكم -أيُّها النَّاسُ- لبنًا مِمَّا في بُطونِها .
كما قال تعالى:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل: 66] .
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ.
أي: ولكم في الأنعامِ مَنافِعُ كَثيرةٌ؛ كاتِّخاذِ أوبارِها لباسًا وأثاثًا، وغيرِ ذلك مِنَ المَنافِعِ .
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.
أي: ومِن لُحومِ الأنعامِ وشُحومِها تأكُلونَ بعدَ ذَبحِها .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّه ذكَر ما تكاد تختَصُّ به بعضُ الأنعامِ، وهو الحَملُ عليها، وقرَنَها بالفُلكِ؛ لأنَّها سفائنُ البَرِّ، كما أنَّ الفُلكَ سفائِنُ البحرِ .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22).
أي: وعلى الإبِلِ في البَرِّ، وعلى السُّفُنِ في البَحرِ تَركَبونَ -أيُّها النَّاسُ- فتَحمِلُكم وتَحمِلُ مَتاعَكم .كما قال تعالى:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] .
وقال سُبحانَه:
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79- 80] .وقال عزَّ وجلَّ:
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 12 - 14] .
الفوائد التربوية:
قال اللهُ تعالى:
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فعلى
العبادِ أن يَستَعظِموا النِّعمةَ في الماءِ، ويُقيِّدوها بالشُّكرِ الدائمِ، ويخافوا نِفارَها إذا لم تُشكَرْ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ كثيرًا ما يَقرِنُ تعالى بين
خَلقِه وعِلمِه، كقولِه تعالى
: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] ، وقولِه تعالى:
بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] ؛ لأنَّ خَلقَ المخلوقاتِ مِن أقوى الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على عِلمِ خالِقِها وحِكمتِه .
2- في قَولِه تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ رَدٌّ على مَن يزعمُ أنَّ اللهَ في الأرضِ بنفْسِه
كهو في السَّماءِ! ولو كان كذلك ما كان في قَولِه:
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ فائدةٌ؛ لأنَّ مَن كان مع خلْقِه بنفْسِه
عُلِمَ أنَّهلا يَغفُلُ عنهم، ولكِنَّه دَلَّ المُرتابينَ على أنَّ الطَّرائقَ السَّبْعَ لا تَحجُبُ خلْقَه عنه، ولا تُنسيه أمرَهم .
3- قوله تعالى:
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ فيه إثباتُ إحاطةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا،
فما وَصَف اللهُ به نفْسَه يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: ثُبوتيٍّ، وسَلبيٍّ أو انتفائيٍّ؛ فالثُّبوتيُّ كلُّه صِفاتُ كَمالٍ،
فكُلُّ صِفةٍ أثبتَها اللهُ لِنَفسِه فهي صِفةُ كَمالٍ، والسَّلبيُّ أو الانتِفائيُّ كُلُّه صِفاتُ نَقصٍ، ولكِنَّه
مُتضَمِّنٌ لِثُبوتِ كَمالٍ؛ ففي قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ نَفيُ الغَفلةِ؛ لِكَمالِ عِلمِه ومُراقبتِه،
وفي قَولِه: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] نفيُ الظُّلمِ؛ لِكَمالِ عَدلِه، وفي قَولِه:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ
مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [فاطر: 44] نَفيُ أن يُعجِزَه شَيءٌ؛ لكَمالِ قُدرتِه وعِلمِه... وهَلُمَّ جَرًّا .
4- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ دَلالةٌ على أنَّه
سُبحانه قادرٌ على ما لا يفعَلُه، خِلافًا لبعضِ أهلِ البِدَعِ الذين قالوا: لا يكونُ قادِرًا
إلَّا على ما أراده دونَ ما لم يُرِدْه، فقوله: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أي: لَقادرونَ على أنْ نَذهبَ
به حتَّى تموتوا عَطَشًا، وتَهْلِكَ مواشِيكم، وتَخْرَبَ أراضِيكم، ومعلومٌ أنَّه لم يَذْهَبْ به .
5- قول الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فيه دليلٌ على أنَّ
مَقَرَّ ما نزَلَ مِن السَّماءِ هو في الأرضِ؛ فمِنْه الأنهارُ والعُيونُ والآبارُ .
6- قولُ الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ استَدلَّ
به مَن قال: إنَّ المياهَ كلَّها مِن السَّماءِ، وأنَّه لا ماءَ مِن الأرضِ .
7- قَولُ الله تعالى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ سُمِّيَ الصِّنفُ الأوَّلُ باسمِ شَجَرتِه؛
لكثرةِ ما فيها مِن المنافِعِ المقصودةِ، بخلافِ الثَّاني؛ فإنَّه المقصودُ مِن شجرتِه .
8- قَولُ الله تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ فيه التَّنبيهُ على الأُدْمِ .
9- قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ فذكرَ اللهُ سبحانه أنَّ فيها عِبرةً، مُجمِلًا، ثمَّ أردَفه بالتفصيلِ مِن أربعةِ أوجُهٍ:
أحدها: قولُه: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا، والمرادُ منه جميعُ وجوهِ الانتفاعِ بألبانِها، ووجهُ الاعتبارِ فيه أنَّها
تجتمعُ في الضُّروعِ، وتتخلَّصُ مِن بينِ الفَرْثِ والدمِ بإذن الله تعالى، فتستحيلُ إلى طهارةٍ وإلى لونٍ وطَعمٍ موافقٍ
للشَّهوةِ، وتصيرُ غِذاءً، فمَن استدَلَّ بذلك على قدرةِ الله وحكمتِه كان ذلك معدودًا في النِّعَم الدينيَّةِ،
ومَن انتفَع به فهو في نعمةِ الدنيا، وأيضًا فهذه الألبانُ التي تخرجُ مِن بطونِها إلى ضروعِها
تجدُها شرابًا طيِّبًا، وإذا ذبحْتَها لم تجِدْ لها أثرًا، وذلك يدلُّ على عظيمِ قُدرةِ الله تعالى.
وثانيها: قولُه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ؛ وذلك بيعُها، والانتفاعُ بأثمانِها، وما يجري مَجرَى ذلك.
وثالثها: قوله: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ يعني: كما تنتفعون بها وهي حيَّةٌ، تنتفِعون بها بعد الذَّبحِ أيضًا بالأكلِ.
ورابعها: قوله: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ؛ لأنَّ وجهَ الانتفاعِ بالإبِلِ في المحمولاتِ على البَرِّ بمنزلةِ
الانتفاعِ بالفُلكِ في البحرِ؛ ولذلك جمع بيْن الوجهينِ في إنعامِه؛ لكي يُشكَرَ على ذلك، ويُستدَلَّ به .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى
: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
- انتِقالٌ مِن الاستدلالِ بخَلْقِ الإنسانِ إلى الاستدلالِ بخَلقِ العوالِمِ العُلويَّةِ؛ لأنَّ أمْرَها أعجَبُ، فالجُملةُ
مَعطوفةٌ على جُملةِ
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] .
- وإنَّما ذُكِرَ هذا عَقِبَ قولِه:
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون: 16] ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الَّذي خلَقَ هذا العالَمَ
العُلويَّ ما خلَقَه إلَّا لحكمةٍ، وأنَّ الحكيمَ لا يُهمِلُ ثَوابَ الصَّالحينَ على حَسناتِهم، ولا جَزاءَ المُسيئينَ على سَيِّئاتِهم،
وأنَّ جَعْلَه تلك الطَّرائقَ فَوقَنا بحيث نَراها؛ لِيَدُلَّنا على أنَّ لها صِلةً بنا؛ لأنَّ عالَمَ الجَزاءِ كائنٌ فيها، ومَخلوقاتِه
مُستقِرَّةٌ فيها؛ فالإشارةُ بهذا التَّرتيبِ مِثْلُ الإشارةِ بعَكْسِه في قولِه:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان: 38-40] .
- وذِكرُ فَوْقَكُمْ؛ للتَّنبيهِ على وُجوبِ النَّظرِ في أحوالِها؛ للاستدلالِ بها على قُدرةِ الخالِقِ
لها تعالى؛ فإنَّها بحالةِ إمكانِ النَّظرِ إليها، والتَّأمُّلِ فيها، ولأنَّ كَونَها فوقَ النَّاسِ ممَّا سَهَّلَ
انتفاعَهم بها في التَّوقيتِ؛ ولذلك عقَّبَ بجُملةِ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ المُشعِرِ بأنَّ في ذلك لُطْفًا بالخَلْقِ،
وتَيسيرًا عليهم في شُؤونِ حَياتِهم، وهذا امتنانٌ، وفيه تَنبيهٌ للنَّظرِ في أنَّ عالَمَ الجَزاءِ كائنٌ بتلك العَوالِمِ .
- ولإرادةِ التعظيمِ أضافَ إلى جمعِ كثرةٍ، فقال: طَرَائِقَ .
- قولُه:
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ نفيُ الغفلةِ كنايةٌ عن العِنايةِ والمُلاحظةِ .
- وقولُه: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ إنْ أُرِيدَ بـ الْخَلْقِ السَّمواتُ، فهو مُظْهَرٌ أُقِيمَ مُقامَ الضَّميرِ؛ للإشعارِ بأنَّه
تعالى خلَقَ السَّمواتِ عن حِكْمةٍ، وأنَّها مَحفوظةٌ بحِفْظِه وإمساكِه. وإنْ أُرِيدَ به النَّاسُ، فهو مَصدرٌ بمعنَى
مَخلوقٍ؛ للإشعارِ بفَضيلةِ الإنسانِ، وأنَّ هذه المخلوقاتِ العِظامِ أُوجِدَتْ لِمَنافِعِه دِينًا ودُنْيَا؛ امتنانًا عليهم،
وعلى التَّقديرينِ يَلزَمُ تَعظيمُ ما يُرادُ منه . وقيل: العُدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ في قولِه: وَمَا كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ غَافِلِينَ دونَ أنْ يُقالَ: (وما كنَّا عنكم غافِلينَ)؛ لِمَا يُفيدُه المُشْتَقُّ مِن مَعْنى التَّعليلِ، أي: ما كُنَّا عنكم
غافِلينَ؛ لأنَّكم مَخلوقاتُنا، فنحنُ نُعامِلُكم بوَصفِ الرُّبوبيَّةِ، وفي ذلك تَنبيهٌ على وُجوبِ الشُّكرِ، والإقلاعِ عن الكُفْرِ .
2- قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
- قولُه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ يَصِحُّ أنْ يُحمَلَ على صَريحِه، أي: بمِقْدارٍ مُعيَّنٍ مُناسِبٍ للإنعامِ به؛ لأنَّه إذا
أُنزِلَ كذلك حَصَلَ به الرِّيُّ والتَّعاقُبُ، وكذلك ذَوبانُ الثُّلوجِ النَّازِلَةِ. ويصِحُّ أنْ يُقصَدُ مع ذلك الكِنايةُ عن الضَّبطِ والإتقانِ
.
- قولُه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنَ السَّمَاءِ على المفعولِ الصَّريحِ مَاءً؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .
- وفيه إظْهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (أنزَلْنا منها)؛ لأنَّ الإنزالَ لا يُعتَبَرُ فيه عُنوانُ كَونِها طَرائقَ، بل مُجرَّدُ كَونِها جِهَةَ العُلوِّ
.
- قولُه: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ
وما تفرَّعَ عليها . وفيه وَعيدٌ وتَهديدٌ .- وقولُه: ذَهَابٍ مِن أوقَعِ النَّكراتِ، والمَعْنى: على وَجْهٍ مِن وُجوهِ الذَّهابِ به،
وطَريقٍ مِن طُرقِه؛ فالتَّنكيرُ إشارةٌ إلى كَثرةِ طُرقِه. وفيه إيذانٌ باقتدارِ المُذْهِبِ، وأنَّه لا يَتعايَا عليه شَيءٌ إذا أراده .
- وقولُه:
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أبلَغُ في الإيعادِ
مِن قولِه:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] ؛ لوُجوهٍ كثيرةٍ، منها:
الأوَّلُ: التَّوكيدُ بـ (إنَّ).
الثَّاني: اللَّامُ في الخبَرِ لَقَادِرُونَ.
الثَّالثُ: أنَّ هذه في مُطلَقِ الماءِ المُنزَّلِ من السَّماءِ، وتلك في ماءٍ مُضافٍ إليهم.
الرَّابعُ: أنَّ الغائِرَ قد يكونُ باقيًا بخِلافِ الذَّاهِبِ.
الخامسُ: ما في تَنكيرِ ذَهَابٍ مِن المُبالَغةِ.
السَّادسُ: إسنادُه هاهنا إلى مُذهِبٍ بخِلافِه ثَمَّت، حيث قيل: غَوْرًا [الملك: 30] .
السَّابعُ: ما في ضَميرِ المُعظِّمِ نَفْسَه وَأَنْزَلْنَا من الرَّوعةِ.
الثَّامنُ: ما في لَقَادِرُونَ من الدَّلالةِ على القُدرةِ عليه، والفِعلُ الواقِعُ مِن القادِرِ أبلَغُ.
التَّاسِعُ: ما في جَمْعِه.
العاشرُ: ما في لَفْظِ بِهِ مِن الدَّلالةِ على أنَّ ما يُمْسِكُه فلا مُرسِلَ له.
الحاديَ عشَرَ: إخلاؤُهُ مِن التَّعقيبِ بإطماعٍ، وهنالك ذُكِرَ الإتيانُ المطْمِعُ.
الثَّانيَ عشَرَ: تَقديمُ ما فيه الإيعادُ -وهو الذَّهابُ- على ما هو كالمُتعلَّقِ له أو مُتعلَّقِه.
الثَّالثَ عشَرَ: ما بين الجُملتينِ -الاسميَّةِ والفِعْليَّةِ- مِن التَّفاوُتِ ثَباتًا وغيرَهُ.
الرَّابعَ عشَرَ: ما في لَفْظِ أَصْبَحَ مِن الدَّلالةِ على الانتقالِ والصَّيرورةِ.
الخامسَ عشَرَ: أنَّ الإذهابَ هاهنا مُصرَّحٌ به، وهنالك مَفهومٌ مِن سِياقِ الاستفهامِ.
السَّادسَ عشَرَ: أنَّ هنالك نَفْيَ ماءٍ خاصٍّ -أعني: المَعِينَ- بخِلافِه هاهنا.
السَّابعَ عشَرَ: اعتبارُ مَجموعِ هذه الأُمورِ الَّتي يَكْفِي كلٌّ منها مُؤكِّدًا.
الثَّامنَ عشَرَ: إخبارُه تعالى به بنَفْسِه مِن دُونِ أمْرٍ للغيرِ هاهنا، بخِلافِه هنالك؛
فإنَّه سُبحانَه أمَرَ نَبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَقولَ ذلك.
التَّاسعَ عشَرَ: عدَمُ تَخصيصِ مُخاطَبٍ هاهنا، وتَخصيصُ الكُفَّارِ بالخِطابِ هنالك.
العِشْرونَ: التَّشبيهُ المُستفادُ مِن جَعْلِ الجُملةِ حالًا؛ فإنَّه يُفِيدُ تَحقيقَ القُدرةِ، ولا تَشبيهَ ثَمَّت.
الحادي والعِشْرونَ: إسنادُ القُدرةِ إليه تعالى مرَّتينِ.
الثَّاني والعِشرونَ: أنَّه ليس الوقْتُ للذَّهابِ مُعيَّنًا هنا بخِلافِه في إِنْ أَصْبَحَ [الملك: 30] ؛
فإنَّه يُفْهَمُ منه أنَّ الصَّيرورةَ في الصُّبحِ على أحَدِ استعمالَيْ (أصبح) ناقِصًا.
الثالث والعِشرونَ: أنَّ جِهةَ الذَّهابِ به ليست مُعيَّنةً بأنَّها السُّفلُ، أي: ما دَلَّ عليه لَفْظُ غَوْرًا.
الرابع والعِشرونَ: أنَّ المُوعَدَ به هنا إنْ وقَعَ فهم هالِكونَ الْبَتَّةَ.
الخامس والعِشرونَ: أنَّه لم يَبْقَ هنا لهم مُتشبَّثٌ ولو ضَعيفًا في تأْميلِ امتناعِ المُوعَدِ به،
وهناك حيث أُسنِدَ الإصباحُ غَورًا إلى الماءِ، ومعلومٌ أنَّ الماءَ لا يُصبِحُ غَورًا بنَفْسِه،
أيضًا احْتُمِلَ أنْ يُتوهَّمَ الشَّرطيَّةُ مع صِدْقِها مُمْتنِعةَ المَقْدَمِ، فيَأْمَنوا وُقوعَه. إلى غيرِ ذلك .
- وأيضًا آيةُ سُورةِ (المُؤمِنون) قُصِدَ منها الإنذارُ والتَّهديدُ بسَلْبِ تلك النِّعمةِ العظيمةِ،
وأمَّا آيةُ سُورةِ (المُلْكِ) فالقَصْدُ منها الاعتبارُ بقُدرةِ اللهِ تعالى على سَلْبِها، فاخْتِلافُ
المَقامَينِ له أثرٌ في اختلافِ المُقتضياتِ؛ فكانت آيةُ سُورةِ (المُؤمِنون) آثَرَ بوَفرةِ الخصائصِ المُناسِبةِ لمَقامِ
الإنذارِ والتَّهديدِ، على أنَّ سُورةَ (المُلْكِ) نَزَلت عقِبَ نُزولِ سُورةِ (المُؤمِنين)، وقد يَتداخَلُ نُزولُ
بَعْضِها مع نُزولِ بَعضِ سُورةِ (المُؤمنينَ)، فلمَّا أُشْبِعَت آيةُ سُورةِ (المُؤمِنين) بالخُصوصيَّاتِ الَّتي اقْتَضاها المَقامُ،
اكتُفِيَ عن مِثْلِها في نَظيرتِها مِن سُورةِ (المُلْكِ)، فسُلِكَ في الثَّانيةِ مَسْلَكُ الإيجازِ؛ لِقُرْبِ العَهدِ بنَظيرِها .
3- قوله تعالى:
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ- قولُه: فَأَنْشَأْنَا
لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، لعله قدَّم الظَّرفَ؛ تعظيمًا للامتنانِ بها .
- قولُه: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ذُكِرَ النَّخيلُ والأعنابُ؛ لكثرةِ منافعِهما؛ فإنَّهما يقومانِ
مقامَ الطَّعامِ، ومقامَ الإدامِ، ومقامَ الفواكِهِ رطبًا ويابسًا . وفيه وجهٌ آخَرُ:
أنَّه صَرَّح بهذين الصِّنفينِ لشَرَفِهما، ولأنَّهما أكثَرُ ما عندَ العربِ من الثِّمارِ .
- قولُه: لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ فيه وَصْفُ الفواكِهِ بـ كَثِيرَةٌ باعتبارِ اختلافِ الأصنافِ؛
كالبُسْرِ والرُّطبِ والتَّمرِ، وكالزَّيتِ والعِنَبِ الرَّطْبِ، وأيضًا باعتبارِ كَثرةِ إثمارِ هَذينِ الشَّجَرينِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُه: لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ بجَمْعِ (فواكه) وبالواوِ في وَمِنْهَا،
وفي سُورةِ (الزُّخرفِ) قال: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 73] بإفرادِ (فاكهة) وحَذْفِ الواو
مِن (منها)؛ ووَجْهُه: أنَّه راعَى في السُّورتينِ لَفْظَ الجنَّةِ؛ إذ ما هنا تقدَّمَتْ جَنَّاتٍ [المؤمنون: 19] بالجَمْعِ، فقال:
فَوَاكِهُ بالجَمْعِ، وفي (الزُّخرفِ) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ [الزخرف: 72] بلَفْظِ الإفرادِ، وإنْ كانت هذه جَنَّةَ الخُلْدِ، لكنْ راعى
اللَّفظَ فقال: فِيهَا فَاكِهَةٌ [الزخرف: 73] . وقال في هذه السُّورةِ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ بزِيادةِ الواوِ؛ لأنَّ تَقديرَ الآيةِ: منها
تَدَّخِرون ومنها تَبِيعونَ، وليس كذلك فاكهةُ الجنَّةِ؛ فإنَّها للأكْلِ فحَسْبُ؛ فلذلك قال في (الزَّخرفِ): مِنْهَا تَأْكُلُونَ، ووافَقَ
هذه السُّورةَ ما بَعْدَها أيضًا، وهو قولُه:
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 21] .
4- قولُه تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ أُخِّرَ ذِكْرُ شَجرةِ الزَّيتونِ
عن ذِكْرِ أخوَيْها (النَّخلِ والعِنَبِ)؛ لأنَّه أُرِيدَ الامتِنانُ بما في ثَمَرتِهما مِن التَّفكُّهِ والقُوتِ؛ فتكونُ
مِنَّةً بالحاجيِّ والتَّحسينيِّ . وتَخصيصُها بالذِّكْرِ مع طَيِّ كونِ النَّاسِ منها يأْكُلون: تَنويهٌ بشأْنِها،
وإشارةٌ إلى كَثرةِ مَنافِعِها؛ لأنَّ مِن ثَمرتِها طَعامًا وإصلاحًا ومُداواةً، ومِن أعوادِها وَقودًا وغيرَه .
- قولُه: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فيه تَخصيصُها بالخُروجِ مِن طُورِ سَيناءَ -مع خُروجِها من سائرِ البِقاعِ أيضًا؛
لِتَعظيمِها، ولأنَّه المنشَأُ الأصليُّ لها . وفيه تَنبيهٌ للتَّنويهِ بشَرَفِ مَنْبَتِها، وكَرَمِ الموطنِ الَّذي ظهَرَت فيه .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ في قولِه: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ العَجيبةِ المُهِمَّةِ الَّتي كُوِّنَت
بها تلك الشَّجرةُ في أوَّلِ تَكوينِها، حتَّى كأنَّ السَّامعَ يُبصِرُها خارجةً بالنَّباتِ في طُورِ سَيناءَ .
- قولُه: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ فيه عَطْفٌ للخاصِّ (الصِّبغِ) على العامِّ (الدُّهْنِ)؛ للاهتمامِ .
5- قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- في قولِه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً خُصَّتِ العِبْرةُ بالحيوانِ؛ لِمَا أنَّ مَحَلَّ العِبْرةِ فيه أظهَرُ ممَّا في النَّباتِ
.
- قولُه: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا تَفصيلٌ وبَيانٌ لجُملةِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً .
- قولُه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ فيه تَقديمُ الظَّرفِ -فِيهَا، وَمِنْهَا- على عامِلِه -مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ،
تَأْكُلُونَ-؛ لِيُشْعِرَ بالأوَّلِ الاشتراكَ بسائرِ الحيواناتِ الَّتي تُناسِبُها في المنافِعِ، وبالثَّاني اختصاصَها بمَنْفعةٍ زائدةٍ،
وكذا عُطِفَ قولُه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ؛ لِيُؤْذِنَ بأنَّ المُرادَ مِن قولِه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً الإبلُ لا غيرُ
-على أحدِ القولينِ في التفسيرِ- فحِينئذٍ نَظْمُ الآياتِ قَريبٌ مِن نَظْمِ قولِه تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
[الغاشية: 17] الآيةَ؛ فإنَّ قولَه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ إلى قولِه: وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ
[المؤمنون: 17 - 20] تَفصيلٌ لقولِه:
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 19 - 20] ،
وقولَه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً إلى قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ تَفصيلٌ لقولِه:
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17]
، وإنَّما دخَلَ الجِبالُ، وإنْ لم يُنَصَّ عليها في التَّنزيلِ؛ لأنَّ قولَه تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عليها .
6- قوله تعالى:
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
- في قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ جمَعَ بينَ الأنعامِ وبينَ الفُلكِ في إيقاعِ الحَمْلِ عليها؛ مُبالَغةً في تَحمُّلِها للحِمْلِ،
وهو الدَّاعي إلى تأْخيرِ ذِكْرِ هذه المَنفعةِ -مع كَونِها مِن المنافعِ الحاصِلَةِ منها- عن ذِكْرِ مَنفعةِ الأكلِ المُتعلِّقةِ بعَينِها .
- وفي ذِكْرِ وَعَلَى الْفُلْكِ إدماجٌ وتَهيئةٌ للتَّخلُّصِ إلى قِصَّةِ نُوحٍ .
سورةُ المُؤْمِنونَ :::::::الآيات (23-30)
غريب الكلمات:
الْمَلَأُ: أي: أشرافُ النَّاسِ ووجُوهُهم، أو الجماعةُ يجتمعونَ على رأيٍ، فيَملوؤنَ العيونَ منظرًا،
والنفوسَ بهاءً وجلالًا. ويُقالُ: فلانٌ مِلءُ العيونِ، أي: معظَّمٌ عندَ مَن رآه. وقيل: وُصِفوا بذلك؛
لأنَّهم يتمالؤونَ، أي: يتظاهرونَ عليه. وأصلُ (ملأ): يدلُّ على المساواةِ، والكمالِ في الشيءِ .
جِنَّةٌ: أي: جُنونٌ، وأصلُ (جنن): السَّتْرُ والتَّسَتُّرُ .
فَتَرَبَّصُوا: أي: انتَظِروا، وأصلُ التربُّصِ: الانتظارُ والتمكُّثُ .
وَفَارَ: أي: نبَع وارتفَع، ومنه: فارت القِدرُ: إذا ارتفعَ ما فيها وغلَى، وأصلُ (فور): يدُلُّ على غَلَيانٍ .
التَّنُّورُ: أي: المكانُ الذي يُخبَزُ فيه، أو: مَكانُ النارِ، وقيل: التَّنُّورُ: وجهُ الأرضِ، وأصلُ (نور):
يدلُّ على إضاءةٍ، واضطرابٍ، وقِلَّةِ ثَباتٍ .
لَمُبْتَلِينَ: أي: لَمُختَبِرينَ، وأصلُ البلاءِ: الاختبارُ والامتحانُ .
المعنى الإجمالي:
يخبرُ الله تعالى أنَّه أرسَل نُوحًا إلى قَومِه بدَعوةِ التَّوحيدِ، فقال لهم: اعبُدوا اللهَ وحْدَه، ليس لكم مِن إلهٍ يَستَحِقُّ
العِبادةَ غَيرُه جَلَّ وعلَا، أفلا تَخشَونَه وتخافون عَذابَه؟! فكذَّبه سادةُ قَومِه وأشرافُهم، وقالوا لعامَّتِهم:
ما نوحٌ إلا إنسانٌ مِثلُكم، وليس رسولًا كما يدَّعي، إنَّما يُريدُ أن يكونَ أفضلَ منكم، ولو شاء اللهُ إرسالَ رسلٍ
لأرسَلَ المَلائِكةَ يُبلِّغونَنا رسالتَه إلينا؛ ما سَمِعْنا بمِثلِ هذا الذي يدْعُونا إليه فيمَن سبَقَنا مِن القرونِ التي
مَضَتْ، وما نُوحٌ إلَّا رجُلٌ به مَسٌّ مِنَ الجُنونِ، فانتَظِروا وقتًا حتى يُفيقَ مِنْ جُنونِه أو يموتَ، فتَستريحوا منه!
قال نوحٌ: رَبِّ انصُرْني على قَومي؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم لي فيما بلَّغتُهم مِن رِسالتِك.
فأوحَى الله إلى نوحٍ أنْ يصنعَ السَّفينةَ بمرأًى منه تعالى وحِفظِه، وبتعليمِه إيَّاه كيفيةَ صنعِها،
وأنَّه إذا جاء أمرُه بإهلاكِ قَومِ نوحٍ بالطوفانِ، ونبَعَ الماءُ بقُوَّةٍ مِنَ المكانِ الذي يُخبَزُ فيه،
فليحمِلْ في السَّفينةِ مِن كُلِّ المَخلوقاتِ ذَكَرًا وأنثى، وليُدخِلْ أهلَه فيها أيضًا إلَّا مَن سبَقَ حُكمُ الله
تعالى بإهلاكِه لكفرِه، ونهاه الله تعالى أن يَسأله نَجاةَ قَومِه الكافرينَ؛ فإنَّهم مُغرَقونَ لا مَحالةَ.
وأمَرَه تعالى إذا استقرَّ على السَّفينةِ وركِبَها هو ومَن معَه؛ أن يقولَ: الحَمدُ لله الذي نجَّانا مِنَ القَومِ
الظالمين. وأمره أن يدعوَ ربَّه أن يُنزِلَه إنزالًا مباركًا؛ فهو سبحانَه خَيرُ المُنزِلينَ.
ثم بيَّن تعالى أنَّ في إهْلاكِ قَومِ نُوحٍ الكافرينَ وإنجائِه المُؤمِنينَ لَدَلالاتٍ واضحاتٍ على صِدقِ ما جاء به رُسُلُ اللهِ
مِن عنده، وإنْ كان الله تعالى لَمُختَبِرٌ الأُمَمَ بإرسالِ الرُّسُلِ إليهم قَبلَ إيقاع العُقوبةِ بهم؛ لِينظرَ كيف يَعملونَ.
تفسير الآيات:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّن اللهُ سُبحانَه وتَعالَى دَلائلَ التَّوحيدِ؛ أرْدَفَها بالقَصصِ؛ كما هو العادةُ في سائِرِ القُرآنِ .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أولًا بَدْءَ الإنسانِ وتَطوُّرَه في تِلكَ الأطوارِ، وما امتَنَّ به عليه ممَّا جَعَله تعالى سَببًا لحياتِهم،
وإدراكِ مَقاصدِهم؛ ذَكَر أمثالًا لكُفَّارِ قُرَيشٍ مِن الأممِ السَّابقةِ المُنكِرةِ لإرسالِ اللهِ رُسلًا، المُكذِّبةِ بما جاءَتْهم به الأنبياءُ
عن اللهِ؛ فابتَدَأَ بقِصَّةِ نُوحٍ؛ لأنَّه أبو البَشرِ الثاني، كما ذَكَر أولًا آدَمَ وخلقَه مِنْ طِينٍ. ولِقَصَّتِه أيضًا مُناسَبةٌ بما قَبْلَها؛ إذ
قَبْلَها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فذَكر قِصَّةَ مَن صَنَعَ الفُلكَ أولًا، وأنَّه كان سَببَ نَجاةِ مَن آمَنَ .
وأيضًا لَمَّا كان الاستدلالُ والامتنانُ -اللَّذانِ تَقدَّما- مُوجَّهَينِ إلى المشركينَ الذين كَفروا بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
واعتلُّوا لذلك بأنَّهم لا يُؤمِنون برِسالةِ بَشَرٍ مِثلِهم، وسألوا إنزالَ ملائكةٍ، ووَسَموا الرَّسولَ
عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالجُنونِ، فلمَّا شابَهوا بذلك قومَ نُوحٍ ومَن جاءَ بعدَهم، ناسَبَ أنْ
يُضرَبَ لهم بقومِ نُوحٍ مَثَلٌ؛ تحذيرًا ممَّا أصابَ قومَ نُوحٍ مِن العَذابِ .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
أي: ولقدْ أَرسَلْنا نُوحًا إلى قَومِه، فقال لهم نُوحٌ: يا قَومِ، اعبُدُوا اللهَ وَحْدَه،
وذِلُّوا بطاعتِه مُخلِصينَ له، ما لكم مِن مَعبودٍ غيرُه يَستَحِقُّ أنْ تَعبُدوه .
أَفَلَا تَتَّقُونَ.
أي: أفلا تخشونَ اللهَ، وتخافونَ عقوبتَه أن تحِلَّ بكم بسببِ عبادتِكم غيرَه، وإشراكِكم به ؟!
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24).
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ.
أي: فقال الكفارُ مِن قومِ نوحٍ مِن الأشرافِ والسَّادةِ: ما نُوحٌ إلَّا إنسانٌ مِثلُكم، وليس
رَسولًا كما يَزعُمُ، وإنَّما يُريدُ أنْ يكونَ أفضَلَ منكم، فادَّعى النُّبُوَّةَ لتَتَّبِعوه !
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً.
أي: ولو شاءَ اللهُ ألَّا نَعبُدَ شَيئًا سِواه، لَأَنزلَ علينا ملائِكةً رُسُلًا يُبَلِّغونَنا ألَّا نَعبُدَ غَيرَه .
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ.
أي: ما سَمِعْنا في أسلافِنا مِنَ القُرونِ الماضيةِ بمِثلِ هذا الَّذي يَدْعونا إليه نُوحٌ، مِن أنَّه لا مَعبودَ لنا غيرُ اللهِ !كما قال
تعالى:
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص: 36] .
وقال سُبحانَه:
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ
* أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص: 4 - 8] .
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25).إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ.
أي: ما نُوحٌ إلَّا رجُلٌ فيه شَيءٌ مِنَ الجُنونِ؛ دفَعه لادِّعاءِ الرسالةِ، فلا يَدري ما يقولُ، وهو ليس رَسولًا مِن عِندِ اللهِ كما يَزعُمُ !
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر: 9].
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ.
أي: فانتَظِروا بنُوحٍ وَقْتًا ما حتَّى يُفيقَ مِنْ جُنونِه فيتركَ دعواه هذه، أو يَموتَ؛ فتَستَريحوا منه .
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26).
أي: قال نُوحٌ: رَبِّ، انصُرْني على قَومي، فأهلِكْهم بسَبَبِ تَكذيبِهم برِسالَتي .
كما قال تعالى:
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات: 75] .
وقال سُبحانَه:
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10].
وقال عَزَّ وجَلَّ:
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا
* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26- 27] .
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27).
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.
أي: فقُلْنا لنُوحٍ: اصنَعِ السَّفينةَ بمرأًى مِنَّا، وفي حِفظِنا، وبتَعليمِنا إيَّاك كيفيَّةَ صُنْعِها .
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
أي: فإذا أتَى وَقتُ إهلاكِنا لِقَومِك -يا نوحُ- بالطُّوفانِ، ونَبَع الماءُ بشِدَّةٍ مِنَ المَوضِعِ
الَّذي يُخبَزُ فيه؛ فأَدْخِلْ في السَّفينةِ مِن كلِّ صِنفٍ مِن أصنافِ المخلوقاتِ ذَكَرًا وأُنثى .
كما قال تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] .
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ.
أي: وأَدخِلْ -يا نُوحُ- في السَّفينةِ أهْلَ بَيتِك، إلَّا مَن سبَقَ حُكمُ اللهِ عليه بإهلاكِه؛ لكُفرِه .
كما قال تعالى:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ
يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ
لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43].
وقال سُبحانَه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10].
وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
أي: ولا تَسألْني -يا نُوحُ- أنْ أُنَجِّيَ الكافرينَ؛ فإنِّي قدْ حَكمْتُ بإغراقِهم جَميعًا .
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28).
أي: فإذا استقرَرْتَ -يا نوحُ- أنتَ والمُؤمِنونَ الَّذين معك على السَّفينةِ،
وعَلَوتُم فَوقَها راكِبينَ، فقُلِ: الحَمدُ للهِ الَّذي خلَّصَنا مِنَ القَومِ المُشرِكينَ .
كما قال تعالى:
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45]
.
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أشار اللهُ تعالى لنُوحٍ -عليه السَّلامُ- بقولِه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا إلى
السَّلامةِ بالحمْلِ، أَتْبَعه الإشارةَ إلى الوَعدِ بإسكانِ الأرضِ، فقال :
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: مُنْزَلًا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ مَنْزِلًا اسمُ مَكانٍ، بمعنى مَوضِعِ النُّزولِ .
2- قِراءةُ مُنْزَلًا وهو مصدرٌ بمعنى الإنزالِ، أي: أنْزِلْني إنْزالًا مُبارَكًا. وقيل: هو اسمُ مفعولٍ مِن (أنزله) على حذفِ
المجرورِ، أي: مُنزلًا فيه. وقيلَ: يَرجِعُ لمعنى القِراءةِ الأُولَى، بمعنَى: مَوضِعًا مُبارَكًا يَنزِلونَ فيه .
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا. :::أي: وقُلْ -يا نُوحُ: رَبِّ أنْزِلْني إنْزالًا مُبارَكًا .
قال تعالى:
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] .
وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. ::::::أي: وأنتَ -يا رَبَّنا- خَيرُ مَن تُنزِلُ عِبادَك .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى هذه القِصَّةَ العظيمةَ، أعقَبَها بالتَّنبيهِ إلى مَوضعِ العِبرةِ منها للمُسلمينَ؛ فأتَى بهذا الاستئنافِ لذلك .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ. أي: إنَّ في إهْلاكِنا قَومَ نُوحٍ الكافرينَ وإنجائِنا المُؤمِنينَ: لَدَلالاتٍ واضحاتٍ على وَحدانيَّةِ اللهِ،
وعِلْمِه وحِكمَتِه، وصِدْقِ أنبيائِه، وقُدْرتِه على نَصْرِ المؤمنين، وإهلاكِ أعدائِه .
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ. أي: وقدْ كُنَّا مُختَبِرينَ بإرسالِ الرُّسُلِ، والتَّذكيرِ بآياتِنا قَبلَ نُزولِ عُقوبتِنا؛ لِنَنظُرَ كيف يَعمَلونَ .
الفوائد التربوية:
قال اللهُ تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
هذا تَعليمٌ منه تعالى لِنُوحٍ عليه السَّلامُ ولمَن معَه أنْ يَقولوا هذا؛ شُكْرًا له تعالى، وحمْدًا على
نَجاتِهم مِنَ القومِ الظَّالمينَ ، وهكذا الواجِبُ على كلِّ مَن أنجاه اللَّه مِن الظَّلمةِ أن يحمَد
على ذلك، ويسألَه النَّجاةَ إذا ابتُليَ بهم، كما عَلَّم نوحًا أن يقولَ ما ذَكَر ويحمَدَه على النَّجاةِ منهم .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فيه إبْطالُ أُلوهيَّةِ غَيرِ اللهِ، وإثْباتُ الإلهيَّةِ للهِ تعالى .
2- الإقرارُ بالملائكةِ عامٌّ في بَني آدَمَ، لم يُنكِرْ ذلك إلَّا شَواذُّ مِن بَعضِ الأُمَمِ؛ ولهذا قالت الأُمَمُ المُكذِّبةُ:
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، حتَّى قَومُ نُوحٍ وعادٌ، وثمودُ، وقومُ فِرعونَ؛ قال قَومُ نُوحٍ:
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةًقبقث3 [المؤمنون: 24] ، وقال تَعالَى:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت: 13، 14]، وفِرْعونُ وإنْ كان مُظْهِرًا
لِجَحْدِ الصَّانعِ؛ فإنَّه ما قال:
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53]،
إلَّا وقد سمِعَ بذِكْرِ الملائكةِ؛ إمَّا مُعترِفًا بهم، وإمَّا مُنكِرًا لهم، فذِكْرُ الملائكةِ عامٌّ في الأُمَمِ، وليس في الأُمَمِ أُمَّةٌ تُنكِرُ
ذلك إنكارًا عامًّا، وإنَّما يُوجَدُ إنكارُ ذلك في بَعضِهم؛ مِثْلُ مَن قدْ يَتفلسَفُ، فيُنكِرُهم؛ لِعَدمِ العِلْمِ، لا للعِلْمِ بالعَدمِ .
3- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ أي: نَصْرًا كائِنًا بسبَبِ تَكذيبِهم؛ جعَلَ حَظَّ نَفْسِه فيما
اعْتَدَوا عليه مُلْغًى، واهتَمَّ بحَظِّ الرِّسالةِ عن اللهِ؛ لأنَّ الاعتداءَ على الرَّسولِ استخفافٌ بمَن أرسَلَهُ .
4- قال اللهُ تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا لَمَّا كان نوحٌ عليه السَّلامُ يَخافُ مِن أذاهُم
له في عَمَلِه بالإفسادِ وغيرِه، قال: بِأَعْيُنِنَا، أي: إنَّه لا يَغِيبُ عنَّا شَيءٌ مِن أمْرِك ولا مِن أمْرِهم، وأنتَ تَعرِفُ
قُدرتَنا عليهم؛ فثِقْ بحِفْظِنا، ولا تَخَفْ شيئًا مِن أمْرِهم. ولَمَّا كان لا يَعلَمُ تلك الصَّنعةَ، قال: وَوَحْيِنَا .
5- قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ألْهَمه اللَّهُ بالوحيِ أنْ يحمَدَ
رَبَّه على ما سَهَّل له مِن سبيلِ النَّجاةِ، وأنْ يسألَه نزولًا في منزِلٍ مُبارَكٍ عقبَ ذلك الترحُّلِ، والدُّعاءُ بذلك
يتضَمَّنُ سؤالَ سلامةٍ مِن غَرَقِ السَّفينةِ، وفي ذلك التَّعليمِ إشارةٌ إلى أنَّه سيُتقبَّلُ ذلك منه .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ استُدِلَّ به على استحبابِ هذا الدُّعاءِ
عندَ النُّزولِ مِن السَّفينةِ، وأنَّه تعليمٌ مِن الله لعبادِه أن يقولوا ذلك ، وذلك على أحدِ القولينِ في وقتِ قولِه.
7- قولُه تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ جِيءَ بـ (على)؛ لأنَّ السَّابقَ ضارٌّ، كما جِيءَ
باللَّامِ حيث كان نافعًا في قولِه تعالى
: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء: 101] .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ لمَّا شابَهَ
المشركونَ قَومَ نُوحٍ ومَن جاء بَعْدَهم: ناسَبَ أنْ يُضْرَبَ لهم بقَومِ نُوحٍ مَثَلٌ؛ تَحذيرًا ممَّا أصاب قَومَ نُوحٍ
مِن العذابِ، وقد جَرَى في أثناءِ الاستدلالِ والامتنانِ ذِكْرُ الحَمْلِ في الفُلْكِ؛ فكان ذلك مُناسَبةً للانتقالِ،
فحصَلَ بذلك حُسْنُ التَّخلُّصِ ، فيُعتبَرُ ذِكْرُ قَصصِ الرُّسلِ إمَّا استطرادًا في خِلالِ الاستدلالِ على الوَحدانيَّةِ،
وإمَّا انتقالًا . وهو شُروعٌ في بَيانِ إهمالِ الأُممِ السَّابقةِ، وتَرْكِهم النَّظرَ والاعتبارَ فيما عُدِّدَ مِن النِّعَمِ
الفائتةِ للحصرِ، وعَدَمِ تَذكُّرِهم بتَذكيرِ رُسلِهم وما حاقَ بهم لذلك مِن فُنونِ العذابِ؛ تَحذيرًا للمُخاطَبينَ .
- وتَقديمُ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ على سائرِ القصصِ؛ لأنَّه أبو البشَرِ الثَّاني، كما ذُكِرَ أوَّلًا آدَمُ في قولِه:
مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، وفي إيرادِها إثْرَ قولِه تعالى: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ مِن حُسْنِ المَوقِعِ ما لا يُوصَفُ .
- وتَصديرُ جُملةِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا بلامِ القسَمِ؛ لتأْكيدِ المضمونِ التَّهديديِّ مِن القِصَّةِ .
- قولُه: فَقَالَ يَا قَوْمِ ... فيه عَطْفُ مَقالةِ نُوحٍ على جُملةِ إرسالِه بفاءِ التَّعقيبِ؛
لإفادةِ أدائِه رِسالةَ ربِّه بالفَورِ مِن أمْرِه، وهو شأْنُ الامتثالِ .
- قولُه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: اعْبُدُوه وَحْدَه، كما يُفْصِحُ عنه قولُه تعالى في سُورةِ (هُودٍ):
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: 26]
، وتُرِكَ التَّقييدُ به؛ للإيذانِ بأنَّها هي العِبادةُ فقطْ، وأمَّا العِبادةُ بالإشراكِ فليسَتْ مِن العِبادةِ في شَيءٍ رأْسًا .
- جُملةُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ استِئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ العِبادةِ المأْمورِ بها، أو لِتَعليلِ الأمْرِ بها ، وهو تَعليلٌ أخَصُّ
مِن المُعلَّلِ، وهو أوقَعُ؛ لِمَا فيه مِن الإيجازِ؛ لاقتضائِه مَعْنى: اعْبُدوا اللهَ وَحْدَه . و(لكم) للتَّخصيصِ والتَّبْيينِ .
- قولُه: أَفَلَا تَتَّقُونَ الهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، والفاءُ للعَطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي:
أتعرِفونَ ذلك -أي: مَضمونَ قولِه تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ- فلا تتَّقونَ عذابَهُ بسبَبِ إشْراكِكم
به في العِبادةِ ما لا يَستحِقُّ الوُجودَ لولا إيجادُ اللهِ تعالى إيَّاهُ، فَضْلًا عنِ استحقاقِ العِبادةِ؛
فالمُنكَرُ عدَمُ الاتِّقاءِ مع تَحقُّقِ ما يُوجِبُه، أو: ألَا تُلاحِظونَ ذلكَ، فلا تتَّقونَه؛
فالمُنكَرُ كِلَا الأمرينِ؛ فالمُبالَغة حِينئذٍ في الكَميَّةِ، وفي الأوَّلِ في الكَيفيَّةِ .
2- قولُه تعالى:
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ فيه مناسَبةٌ حسنةٌ؛ حيث خُولِفَت في حِكايةِ جَوابِ الملَأِ مِن قَومهِ
الطَّريقةُ المأْلوفةُ في القُرآنِ في حِكايةِ المُحاوَراتِ، وهي تَرْكُ العَطْفِ الَّتي جَرَى عليها قولُه:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ، فعُطِفَ هنا جَوابُ الملَأِ مِن قَومِه بالفاءِ؛ لِوَجهينِ:
أحدُهما: أنَّهم لم يُوجِّهوا الكلامَ إليه، بل تَرَكوه وأقْبَلوا على قَومِهم يُفنِّدون لهم ما دَعاهم إليه نُوحٌ.
والثَّاني: لِيُفادَ أنَّهم أسْرَعوا بتَكذيبِه وتَزْييفِ دَعوتِه قبْلَ النَّظرِ .
- ومِن المناسَبةِ الحسنةِ أيضًا: قولُه هنا: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بتَقديمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا على مِنْ قَوْمِهِ ، وقال بعْدُ بالعَكْسِ:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون: 33] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه اقتصَرَ هنا في
صِلَةِ الموصولِ على الفِعلِ والفاعِلِ، وفيما بَعْدُ طالَتْ فيه الصِّلةُ، بزِيادةِ العَطْفِ على الصِّلةِ مرَّةً بعْدَ
أُخرى، فقدَّمَ عليها مِنْ قَوْمِهِ؛ لأنَّ تأْخيرَه عن المفعولِ مُلْبِسٌ، وتَوسيطَه بَيْنَه وبينَ ما قبْلَه رَكيكٌ .
وفيه وَجْهٌ آخَرُ: أنَّ المجرورَ مِنْ قَوْمِهِ رافعٌ إمكانَ أنْ يكونَ القائلونَ غيرَهم، ويَلِيهِ في الحاجةِ إلى
ذِكْرِه وَسْمُهم بالكُفْرِ؛ لأنَّه سبَبُ أخْذِهم وهَلاكِهم، إلَّا أنَّه لمَّا كان قد يُفْهِمُه سِياقُ الكلامِ، لم يَلزَمِ الإفصاحُ
به في كلِّ مَوضعٍ، وإنْ أُفْصِحَ به هنا، أمَّا الإفصاحُ بالمجرورِ فالإفصاحُ به أو بضَميرٍ يَقومُ مَقامَه
ضَروريٌّ لا بُدَّ منه؛ لِيَحصُلَ منه تَخصيصُ الحُكْمِ بمَن تقدَّمَ. ولا فرقَ بينَ هذه القِصَّةِ وقِصَّةِ نُوحٍ
قبْلَها في الحاجةِ إلى هذا المجرورِ أو ما يَقومُ مَقامَه، فلم يُقدَّمْ هناك؛ لأنَّه لم يَرِدْ هناك غيرُ صِفَةٍ
واحدةٍ جُعِلَتْ مع مَوصوفِها كشَيءٍ واحدٍ، وإن كان الوصفُ بموصولٍ، والموصولُ يَطولُ بصِلتِه،
إلَّا أنَّ طُولَه بصِلتِه لا يُزيلُه عن تقديرِه باسمٍ واحدٍ، فمِن حيثُ جُعلتِ الصِّفةُ مع موصوفِها كشيءٍ
واحدٍ للحاجةِ إليها، وكونِها مفردةً: قُرِنتْ بموصوفِها، وتأخَّر المجرورُ، فقال تعالى:
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [المؤمنون: 24] ، وحيثُ لم يقَعِ الاكتفاءُ بصِفَةٍ واحدةٍ وزِيدَ عليها،
ولا يُمكِنُ جَعْلُ صِفَتينِ فما زاد مع مَوصوفِها كشَيءٍ واحدٍ: قُدِّمَ المجرورُ، فقال تعالى:
وَقَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون: 33] ؛
فوقَعَ المَجرورُ في كلٍّ مِن الآيتينِ على ما يَجِبُ، وعُطِفَتِ الصِّفاتُ بَعْضُها على بَعضٍ؛ لِوُرودِها غيرَ صِفَةٍ .
- ومِن المناسَبةِ أيضًا: زِيادةُ ما عُطِفَ على الوَصفِ بالكُفْرِ في القِصَّةِ الثَّانيةِ، وهو قولُه:
وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون: 33] ، مع اسْتِحقاقِهم العَذابَ بمُجرَّدِ كُفْرِهم؛
ووَجْهُه: أنَّ هذه الزِّيادةَ مُنْبئةٌ بأنَّ المذكورينَ في القِصَّةِ الثَّانيةِ ليسوا في شُمولِ الكُفْرِ إيَّاهم واستيلائِه
على مُعْظَمِهم كقَومِ نُوحٍ عليه السَّلامُ، بلِ الإيمانُ في هؤلاء أفْشَى وأكثَرُ؛ قال تعالى:
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 58] ، ولم يقَعْ هنا وَصْفُ مَن آمَنَ
مِن قَومِ هُودٍ بقِلَّةٍ ولا بكَثرةٍ، فبَقِيَ الاحتمالُ في الطَّرفينِ على حَدٍّ سواءٍ، إلَّا أنَّه ورَدَ في وَصْفِ
الملَأِ المُكذِّبينَ مِن قَومِ هُودٍ في هذه السُّورةِ، ممَّن أفصَحَ بالرَّدِّ والتَّكذيبِ وصَدِّ النَّاسِ عن اتِّباعِه،
ما يُشعِرُ بأنَّهم ليسوا أكثَرَ قومِه، وذلك لِمَا وصَفَهم به بعْدَ الكُفْرِ مِن التَّكذيبِ والإترافِ، وهو
التَّنعُّمُ والتَّرفيهُ، والعَقْلُ شاهِدٌ أنَّ المُتْرفينَ ليسوا جَميعَهم، أمَّا الكُفْرُ فلا يَبعُدُ اتِّصافُ أُمَّةٍ بأسْرِها
به، ويَبعُدُ اتِّصافُ جَميعِهم بالامتدادِ في التَّنعُّمِ والتَّرفُّهِ، فأشعَرَ وَصْفُهم بما ذُكِرَ بعْدَ كُفْرِهم
بكَثرةٍ فيمَن عَداهم، بخِلافِ الحالِ في قَومِ نُوحٍ، وأشعَرَ أيضًا بامتدادِهم وتَمكُّنِهم في دُنْياهم
أكثَرَ مِن غَيرِهم؛ فأشعَرَتْ زِيادةُ الوَصْفِ بتَوسُّعِ الحالِ وامتدادِ الآمادِ، فلم يكُنْ بُدٌّ مِن وَصْفِهم بما ذُكِرَ .
- قولُه: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَفَ الملَأَ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا مع اشتراكِ الكلِّ فيه؛ للإيذانِ بكَمالِ عَراقتِهم
في الكُفْرِ، وشِدَّةِ شَكيمتِهم فيه . وفيه: إيماءٌ إلى أنَّ كُفْرَهم هو الَّذي أنطَقَهم بهذا الرَّدِّ على نُوحٍ،
وهو تَعريضٌ بأنَّ مِثْلَ ذلك الرَّدِّ لا نُهوضَ له، ولكنَّهم رَوَّجُوا به كُفْرَهم؛ خَشيةً على زَوالِ سِيادَتِهم .
- قولُه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وصَفُوهُ عليه السَّلامُ بذلك؛ مُبالَغةً في وَضْعِ رُتْبتِه العاليةِ وحَطِّها عن مَنصبِ النُّبوَّةِ
. وهو كِنايةٌ عن تَكذيبِه في دَعْوى الرِّسالةِ بدَليلٍ مِن ذاتِه؛ أَوْهَموهُم أنَّ المُساواةَ في البشريَّةِ مانِعةٌ مِن الوساطةِ
بينَ اللهِ وبينَ خَلْقِه. واسمُ الإشارةِ مُنصرِفٌ إلى نُوحٍ، وهو يَقْتَضي أنَّ كَلامَ الملَأِ وقَعَ بحَضرةِ نُوحٍ في وَقْتِ
دَعوتِه، فعَدَلوا مِن اسمِه العَلَمِ إلى الإشارةِ؛ لأنَّ مَقصودَهم تَصغيرُ أمْرِه، وتَحقيرُه لَدى عامَّتِهم؛ كَيْ لَا يَتقبَّلوا قولَه .
- قولُه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فيه حَذْفُ مَفعولِ فِعْلِ المشيئةِ؛ لِظُهورِه من جَوابِ (لو)،
أي: لو شاءَ اللهُ إرسالَ رَسولٍ لَأنزَلَ ملائكةً رُسلًا، وذلك مِن الإيجازِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُه هنا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً... الآيةَ، بلَفْظِ (الله)،
وفي سُورةِ (فُصِّلتْ) قال: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [فصلت: 14] بلَفْظِ رَبُّنَا؛ ووَجْهُه:
أنَّ كلَّ آيةٍ جاءت مُوافِقةً لِمَا قبْلَها؛ إذْ ما هنا تقدَّمَه لَفْظُ اللَّهُ دونَ رَبُّنَا، وفي (فُصِّلَت) تقدَّمَ ذِكْرُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
[فصلت: 9] سابقًا على ذِكْرِ (الله)، فصُرِّحَ في هذه السُّورةِ بذِكْرِ (الله)، وهناك بذِكْرِ الرَّبِّ لإضافَتِه إلى
العالَمينَ، وهم جُملَتُهم، فقالوا -إمَّا اعتقادًا، وإمَّا استهزاءً-: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً؛ فأضافُوا الرَّبَّ إليهم .
- وجُملةُ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ مُستأْنفةٌ، قَصَدوا بها تَكذيبَ الدَّعوةِ بَعْدَ تَكذيبِ الدَّاعي؛
فلذلك جِيءَ بها مُستأْنفةً غيرَ مَعطوفةٍ؛ تَنبيهًا على أنَّها مَقصودةٌ بذاتِها، وليست تَكْمِلةً لِمَا قبْلَها،
بخِلافِ أُسلوبِ عَطْفِ جُملةِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً؛ إذ كان مَضمونُها مِن تَمامِ غرَضِ ما قبْلَها .
- ولمَّا كان السَّماعُ المَنْفِيُّ ليس سَماعًا بآذانِهم لكَلامٍ في زَمنِ آبائِهم، بلِ المُرادُ ما بلَغَ إلينا
وُقوعُ مِثْلِ هذا في زَمنِ آبائِنا- عُدِّيَ فِعْلُ (سمِعَ) بالباءِ؛ لِتَضمينِه معنى الاتِّصالِ .
3- قوله تعالى
: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ
- وقولُه: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ جَميعَ ما قالوه يُثِيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يَتساءَلوا:
إذا كان هذا حالَ دَعوتِه في البُطلانِ والزَّيفِ؛ فماذا دَعاهُ إلى القولِ بها؟ فيُجابُ بأنَّه أصابَهُ خلَلٌ في عَقْلِه،
فطلَبَ ما لم يكُنْ لِيَنالَه مِثْلُه مِن التَّفضُّلِ على النَّاسِ كلِّهم بنِسْبَتِهم إلى الضَّلالِ؛ فقد طَمِعَ
فيما لا يَطمَعُ عاقِلٌ في مِثْلِه، فدَلَّ طمَعُه في ذلك على أنَّه مَجنونٌ .
- والتَّنوينُ في جِنَّةٌ للنَّوعيَّةِ، أي: هو مُتلبِّسٌ بشَيءٍ من الجُنونِ، وهذا اقتصادٌ
منهم في حالِه؛ حيث احْتَرَزوا مِن أنْ يُورِّطُوا أنفُسَهم في وَصْفِه بالخَبالِ،
مع أنَّ المُشاهَدَ مِن حالِه يُنافي ذلك، فأوْهَموا قَومَهم أنَّ به جُنونًا خَفيفًا لا تَبْدو آثارُه واضحةً .
- والقَصرُ في قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ قَصرٌ إضافيٌّ ، أي: ليس برَسولٍ مِن اللهِ .
- قولُه: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ يَحتمِلُ أنْ يكونَ مُتعلِّقًا بما قبْلَه، أي: أنَّه مَجنونٌ، فاصْبِروا إلى زَمانٍ حتَّى يَظهَرَ عاقِبةُ
أمْرِه؛ فإنْ أفاقَ، وإلَّا قَتلتُموهُ. ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ كَلامًا مُستأْنفًا، وهو أنْ يَقولوا لِقَومِهم: اصْبِروا؛ فإنَّه إنْ كان نَبِيًّا حقًّا،
فاللهُ يَنصُرُه ويُقوِّي أمْرَه، فنحن حِينئذٍ نَتَّبِعُه، وإنْ كان كاذِبًا، فاللهُ يَخذُلُه ويُبطِلُ أمْرَه، فحينئذٍ نَستريحُ منه .
4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما حُكِيَ عن صَدِّهم النَّاسَ عن تَصديقِ
دَعوةِ نُوحٍ، وما لَفَّقُوه مِن البُهتانِ في نِسْبتِه إلى الجُنونِ، ممَّا يُثِيرُ سُؤالَ مَن يسأَلُ:
ماذا صنَعَ نُوحٌ حين كذَّبَه قَومُه؟ فيُجابُ بأنَّه قال: رَبِّ انْصُرْني... إلخ .
- قولُه: رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث سأَلَ نوحٌ هنا نَصْرًا مُجْملًا، ولمَّا أعلَمَهُ اللهُ أنَّه لا رجاءَ في
إيمانِ قَومِه إلَّا مَن آمَنَ منهم، كما جاء في سُورةِ (هُودٍ)، فلا رجاءَ في أنْ يكونَ نَصْرُه برُجوعِهم إلى طاعَتِه
وتَصديقِه واتِّباعِ مِلَّتِه؛ فسأَلَ نُوحٌ حِينذاك نَصْرًا خاصًّا، وهو استئصالُ الَّذين لم يُؤْمِنوا، كما جاء في سُورةِ (نُوحٍ):
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح: 26، 27]؛ فالتَّعقيبُ
الَّذي في قولِه تعالى هنا: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ تَعقيبٌ بتَقديرِ جُمَلٍ مَحذوفةٍ، وهو إيجازٌ في حِكايةِ القِصَّةِ .
5- قوله تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- الفاءُ في قولِه: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا لِتَرتيبِ مَضمونِ ما بَعْدَها على تَمامِ صُنْعِ الفُلكِ .
- قولُه: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ التَّنوينُ في قولِه: كُلٍّ زَوْجَيْنِ تَنوينُ عِوَضٍ يُشعِرُ
بمَحذوفٍ أُضِيفَ إليه (كل)، وتَقديرُه: مِن كلِّ ما أمرْتُك أنْ تَحمِلَه في السَّفينةِ .
- وتأْخيرُ الأمْرِ بإدخالِ الأهْلِ عمَّا ذُكِرَ مِن إدخالِ الأزواجِ فيها في قولِه: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ؛
لكَونِه عَريقًا فيما أُمِرَ به مِن الإدخالِ؛ فإنَّه يَحتاجُ إلى مُزاوَلةِ الأعمالِ منه عليه السَّلامُ، بل إلى مُعاونةٍ
مِن أهْلِه وأتْباعِه، وأمَّا هم فإنَّما يَدْخلونَها باختيارِهم بعْدَ ذلك، ولأنَّ في المُؤخَّرِ ضَرْبَ تَفصيلٍ بذِكْرِ
الاستثناءِ وغَيرِه؛ فتَقديمُه يُؤدِّي إلى الإخلالِ بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث عُبِّرَ هنا بقولِه: فَاسْلُكْ فِيهَا، وفي سُورةِ (هُودٍ) بقولِه: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا [هود: 40]؛
ووَجْهُه: أنَّ آيةَ سُورةِ (هُودٍ) حَكَتْ ما خاطبَه اللهُ به عندَ حُدوثِ الطُّوفانِ، وذلك وقْتٌ ضَيِّقٌ، فأُمِرَ بأنْ يَحمِلَ في
السَّفينةِ مَن أرادَ اللهُ إبقاءَهم، فأسنَدَ الحَمْلَ إلى نُوحٍ تَمْثيلًا للإسراعِ بإركابِ ما عُيِّنَ له في السَّفينةِ، حتَّى كأنَّ
حالَهُ في إدخالِه إيَّاهم حالُ مَن يَحمِلُ شيئًا لِيَضعَهُ في مَوضِعٍ، وآيةُ هذه السُّورةِ حَكَتْ ما خاطبَهُ
اللهُ به مِن قَبْلِ حُدوثِ الطُّوفانِ؛ إنباءً بما يَفعَلُه عندَ حُدوثِ الطُّوفانِ، فأمَرَه بأنَّه حِينئذٍ يُدخِلُ في
السَّفينةِ مَن عيَّنَ اللهُ إدْخالَهم، مع ما في ذلك مِن التَّفنُّنِ في حِكايةِ القِصَّةِ .
6- قوله تعالى:
وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- قولُه: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تَعليلٌ للنَّهيِ، أو لِمَا يُنبِئُ عنه مِن عدَمِ قَبولِ الدُّعاءِ، أي: إنَّهم مَقْضِيٌّ عليهم بالإغراقِ لا
مَحالةَ؛ لِظُلْمِهم بالإشراكِ وسائرِ المَعاصي، ومَن هذا شأْنُه لا يُشْفَعُ له، ولا يُشَفَّعُ فيه، كيف لا وقد أُمِرَ بالحمْدِ
على النَّجاةِ منهم بهَلاكِهم بقولِه تعالى:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ، على طَريقةِ قولِه تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45] .
7- قوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- قولُه: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ جاء الأمْرُ (قُل) له وَحْدَه، وإنْ كان
الشَّرطُ قد شَمِلَه ومَن معهُ؛ لأنَّه نَبِيُّهم وإمامُهم، وهم مُتَّبِعوه في ذلك؛ إذ هو قُدْوتُهم، مع ما فيه مِن الإشعارِ
بفَضلِ النُّبوَّةِ، وإظهارِ كِبْرياءِ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّ رُتبةَ تلك المُخاطَبةِ لا يَترقَّى إليها إلَّا مَلَكٌ أو نَبِيٌّ .
8- قوله تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
- قولُه: وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ تَعليلٌ لسُؤالِهِ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا ، وهو ثَناءٌ مُطابِقٌ لدُعائِه،
أمَرَهُ بأنْ يَشفَعَهُ به؛ مُبالَغةً فيه، وتَوسُّلًا به إلى الإِجابةِ .
9- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ لمَّا ذكَرَ هذه القِصَّةَ العظيمةَ؛ أعقَبَها
بالتَّنبيهِ إلى مَوضِعِ العِبْرةِ منها للمُسلمينَ، فأتَى بهذا الاستئنافِ لذلك .
- وعُطِفَ جُملةُ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ على جُملةِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ؛ لأنَّ مَضمونَ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يُفِيدُ معنَى:
إنَّ في ذلك لَبَلْوى؛ فكأنَّه قِيلَ: إنَّ في ذلك لآياتٍ وابتلاءً وكُنَّا مُبْتلينَ، أي: وشأْنُنا ابتلاءُ أوليائِنا .
- وقولُه: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ تَسليةٌ للنَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما يَلْقاهُ مِن المُشركينَ، وتَعريضٌ بتَهديدِ
المُشركينَ بأنَّ ما يُواجِهون به الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا بَقاءَ له، وإنَّما هو بَلْوى تَزُولُ عنه وتَحُلُّ بهم، ولكلٍّ حظٌّ
يُناسِبُه، ولكونِ هذا ممَّا قد يَغِيبُ عن الألبابِ، نُزِّلَ مَنزِلةَ الشَّيءِ المُتردَّدِ فيه، فأُكِّدَ بـ (إنْ) المُخفَّفةِ، وبفِعْلِ (كنَّا) .
سورةُ المُؤْمِنونَ الآيات (31-43)
غريب الكلمات:
قَرْنًا: القَرْنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترِنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل:
مدَّة القرنِ مئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ،
وهو اجتماعُ شيئينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصْلُ (قرن): يدلُّ على جَمْعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .
وَأَتْرَفْنَاهُمْ: أي: نعَّمْناهم، وأبْقَيناهم في المُلْكِ، ووسَّعْنا عليهم، والمُترَفُ: المُتقلِّبُ فِي لِينِ العَيْشِ، وأصْلُ (ترف): التَّنعُّمُ
.
هَيْهَاتَ: أي: بَعيدٌ، وهي كلمةٌ تُستعمَلُ لتبعيدِ الشيءِ، أو هي اسمُ فعلٍ بمعنَى (بعُدَ) .
غُثَاءً: أي: هَلْكَى كالغُثاءِ، وهو ما علا السَّيلَ مِن الزَّبَدِ وغيرِه، أو لا بَقِيَّةَ فيهم، أو شَيئًا بالِيًا، وأصْلُه:
.
ارتِفاعُ شَيءٍ دَنِيٍّ فوقَ شَيءٍ فَبُعْدًا: أي: فهَلَاكًا، والبُعدُ أكثرُ ما يُقالُ في الهلاكِ، وأصْلُه: ضِدُّ القُرْبِ .
مشكل الإعراب:
1- قَوْلُه تعالى:
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ
المَصدَرُ المُؤَوَّلُ مِن (أنَّ) الأُولى واسمِها (كُمْ) في أَنَّكُمْ، وخَبَرِها مُخْرَجُونَ في محَلِّ
نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ أَيَعِدُكُمْ، وكُرِّرَتْ (أنَّ) الثَّانيةُ تَوكيدًا لَمَّا طال الفَصلُ؛ فالمعنى على هذا:
أيَعِدُكم أنَّكم مُخرَجونَ إذا مِتُّم... فلمَّا بَعُدَ ما بينَ (أنَّ) الأُولى وخَبَرِها مُخْرَجُونَ بقَولِه: إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أُعِيدَ ذِكرُ (أنَّ). و إِذَا ظَرفٌ لـ مُخْرَجُونَ. وقيل: خبَرُ الأُولى مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ خبَرِ الثَّانيةِ عليه؛ فتقديرُه:
أنَّكم تُبعَثون، وهو العامِلُ في الظَّرفِ (إذَا)، و (أنَّ) الثَّانيةُ وما في حَيِّزِها بَدَلٌ مِنَ الأُولى. وقيلَ غيرُ ذلك .
2- قَوْلُه تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
قَولُه: هَيْهَاتَ: اسمُ فِعلٍ ماضٍ بمعنَى (بَعُدَ). وفي فاعلِه وَجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه ضَميرٌ مُستَتِرٌ، تَقديرُه:
بَعُدَ التَّصديقُ أو الوُقوعُ، ونحوُ ذلك، واللَّامُ في (لِمَا) للتَّبْيينِ. والثَّاني: أنَّ فاعِلَه (ما)، واللَّامُ فيه زائِدةٌ،
أي: بَعُدَ ما تُوعَدونَ مِنَ البَعثِ. وقيلَ: هَيْهَاتَ اسمٌ بمعنى البُعدِ، وهو مُبتدأٌ مبنيٌّ على الفَتحِ في محلِّ رَفعٍ،
والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ له. وهَيْهَاتَ الثَّاني تأكيدٌ للأوَّلِ تأكيدًا لَفْظِيًّا .
المعنى الإجمالي:
يخبرُ الله تعالى: أنه أنشَأ مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ قومًا آخَرينَ، فأرسَل فيهم رَسولًا منهم، فقال لهم: اعْبُدوا اللهَ وَحْدَه؛
ليس لكم مَعبودٌ بحَقٍّ غَيرُه؛ أفلَا تَخافونَ عِقابَه إذا عَبدْتُم غَيرَه؟! وقال السادة والأشرافُ مِن قَومِه الَّذين كَفَروا باللهِ،
وأنْكَروا الحياةَ الآخِرةَ، وأطْغَتْهم النِّعَمُ التي أنعمَ الله بها عليهم في الدُّنيا: ما هذا الرسولُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكم، يأكُلُ مِمَّا
تأكُلونَ مِنَ الطَّعامِ، ويَشرَبُ مِمَّا تَشرَبونَ مِنَ الشَّرابِ، ولئنِ اتَّبَعتُم إنسانًا مِثلَكم إنَّكم -إذًا- لخاسِرونَ.
وقالوا لقومِهم أيضًا: أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّم وصِرتُم تُرابًا وعِظامًا مُفتَّتةً، أنكم ستُخْرَجونَ مِن قُبورِكم أحياءً؟! بَعِيدٌ بعيدٌ
جِدًّا ما يعدُكم به؛ ما حَياتُنا إلَّا في هذه الدُّنيا؛ يَموتُ فيها الأحياءُ مِنَّا فلا يَحْيَوْنَ مرَّةً أخرى،
ويُولَدُ آخَرون فيَحْيَوْن فيها، وما نحن بمبعوثينَ أحياءً مَرَّةً أُخرَى بعدَ الموتِ. وما هذا الذي يدَّعي
أنَّه رسولٌ إلَّا رجُلٌ اختَلَقَ على اللهِ كَذِبًا، وما نحن بمُصَدِّقينَ له فيما يقولُه!
ثم يخبرُ تعالى أنَّ رَسولَهم دعا رَبَّه قائِلًا: رَبِّ انصُرْني عليهم؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم لي. فقال اللهُ مُجِيبًا
لِدَعوةِ ذلك الرَّسولِ: سنُعَذِّبهم قَريبًا، فيُصبِحونَ نادِمينَ على كُفرِهم وتَكذيبِهم. فانتقَم الله منهم
بأنْ أخَذتْهم صَيحةٌ شَديدةٌ، وهم يستحِقُّون ذلك العقابَ، فجعَل الله هؤلاء الكافرينَ هامدينَ هلْكَى،
كغُثاءِ السَّيلِ الَّذي يَطْفو على الماءِ لا منفعةَ فيه؛ فبُعدًا للقومِ الظَّالِمينَ مِن رَحمةِ اللهِ.
ثمَّ يخبرُ تعالى أنه أنشَأ مِن بَعدِ أولئك القوم المُكَذِّبينَ أقوامًا آخَرينَ، ما تتقَدَّمُ
أيُّ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ المُكَذِّبةِ الوَقتَ الذي حدَّده الله لهَلاكِها، ولا تَتأخَّرُ عنه.
تفسير الآيات:ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى تَكذيبَ قَومِ نُوحٍ عليه السَّلامُ وما عَذَّبَهم به، وكان القِياسُ مُوجبًا أنَّ مَن
يأْتي بَعْدَهم يَخْشى مِثْلَ مَصرَعِهم، فيَسلُكُ غيرَ سَبيلِهم، ويقولُ غيرَ قِيلِهم؛ بيَّنَ أنَّه لم تَنفَعْهم العِبرةُ،
فارْتَكبوا مِثْلَ أحوالِهم، وزادوا على أقْوالِهم وأفعالِهم؛ لإرادةِ ذلك مِن الفاعِلِ المُختارِ، الواحِدِ القهَّارِ.
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان المقصودُ -مع التَّهديدِ والدَّلالةِ على القُدرةِ والاختيارِ- الدَّلالةَ على تَخصيصِ
المُؤمِنينَ بالفلاحِ والبَقاءِ بعْدَ الأعداءِ، وكان إهْلاكُ المُتْرفينَ أدَلَّ على ذلك؛ اقْتَصَرَ على ذِكْرِهم،
وأبْهَمَهم؛ لِيَصِحَّ تَنزيلُ قِصَّتِهم على كلِّ مَن ادُّعِي فيهم الإترافُ مِن الكَفرةِ .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31).
أي: ثُمَّ أوجَدْنا مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ قَومًا آخَرينَ .
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32).
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
أي: فأرسَلْنا في أولئك القَومِ رَسولًا منهم، فقال لهم: اعْبُدوا اللهَ
وَحْدَه وأطِيعُوه؛ ما لكمْ مِن مَعبودٍ يَستَحِقُّ العِبادةَ غَيرُه .
أَفَلَا تَتَّقُونَ.
أي: أفَلا تخافونَ عقابَ الله على شركِكم؛ فتَجْتَنِبوا عبادةَ هذه الأصنامِ ؟!
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33).
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: وقال الرُّؤساءُ والأشرافُ والسادةُ مِن قَومِ هذا الرسولِ، الَّذين كَفَروا باللهِ، وكذَّبوا بالبَعثِ
والحِسابِ، ونعَّمْناهم ووَسَّعْنا عليهم الرِّزقَ في الحَياةِ الدُّنيا حتَّى بَطِروا وطَغَوا .
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ.
أي: ما هذا الرَّسولُ إلَّا إنسانٌ مِثلُكم، يأكُلُ مِمَّا تأكُلونَ مِنَ الطَّعامِ،
ويَشرَبُ مِمَّا تَشرَبونَ مِنَ الشَّرابِ، وليس رسولًا كما يَزعُمُ !
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) .
أي: ولئِنْ أطعْتُم إنسانًا مِثلَكم، فصَدَّقتُم أنَّه رَسولٌ واتَّبعتُموه، إنَّكم إذَن لَمَغْبونونَ .
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35).
أي: أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّم وصِرتُم تُرابًا وعِظامًا في قُبورِكم أنَّكم ستُخرَجون منها أحياءً، كما كُنتُم قَبلَ مَماتِكم ؟!
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36).
أي: بَعيدٌ بَعيدٌ جِدًّا ما يَعِدُكم به مِنَ البَعثِ بَعدَ المَوتِ؛ فلا يكونُ ذلك أبدًا !
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37).
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا.
أي: ليس هناك حَياةٌ أُخرَى سِوى حياتِنا الدُّنيا، يَموتُ فيها الأحياءُ مِنَّا فلا يَحيَونَ ثانيةً، ويُولَدُ آخَرونَ فيَحيَونَ فيها !
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
أي: وما نحن بمَبعوثينَ أحياءً بَعْدَ المَوتِ .
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38).
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.
أي: ما هذا الَّذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ سِوى رَجُلٍ يَختَلِقُ على
اللهِ كَذِبًا بأنَّه أرسَلَه بالتَّوحيدِ، وأنَّه يَبعَثُ عِبادَه أحياءً بَعْدَ المَوتِ !
وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.
أي: وما نحنُ له بمُصَدِّقينَ فيما يقولُه مِن تَوحيدِ اللهِ والبَعثِ بَعدَ المَوتِ !
قَ
الَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39).
أي: قال الرَّسولُ: ربِّ انصُرْني على قَومِي، فأَهلِكْهم بسَبَبِ تَكذيبِهم برِسالتي .
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40).
أي: قال اللهُ للرَّسولِ: سنُعَذِّبُهم قَريبًا، فيُصبِحونَ نادِمينَ على كُفرِهم وتَكذيبِهم .
كما قال تعالى:
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 177] .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41).
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ.
أي: فانتقَمْنا منهم بصَيحةٍ أخذَتْهم، وهم يَستَحِقُّونَ هذا العِقابَ؛
لِكُفرِهم باللهِ وتَكذيبِهم رَسولَه، فلم يَظلِمْهمُ اللهُ، ولكِنْ ظَلَموا أنفُسَهم .
فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً.
أي: فجعَلْنا الكافرينَ هَلْكى هامِدينَ، حتَّى صاروا كغُثاءِ السَّيلِ الَّذي لا مَنْفعةَ فيه .
فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
أي: فبُعدًا مِن رَحمةِ اللهِ لِلقَومِ الكافرينَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ برَبِّهم، ومَعصيةِ رَسولِه .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42).
أي: ثُمَّ أوجَدْنا مِن بَعدِ أولئك القَومِ الظَّالِمينَ أقوامًا آخَرينَ .
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43).
أي: ما تَسبِقُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ الوقتَ الَّذي قدَّرَه اللهُ
لإهْلاكِها، وما تتأخَّرُ عن ذلك الوَقتِ المكتوبِ في اللَّوحِ المَحفوظِ
.
كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
وقال سُبحانَه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] .
وقال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا
* وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 38- 39] .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ
أصاب قَومَ نُوحٍ على تَكذيبِهم له لم يكُنْ صُدْفةً، ولكنَّه سُنَّةُ اللهِ في المُكذِّبينَ لرُسُلِه؛ ولذلك
لم يُعيِّنِ القَرْنَ ولا القُرونَ بأسمائِهم .
2- قولُه تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ حُجَّةٌ على المُعتزِلَةِ والقدَريَّةِ
فيما يَزْعُمون أنَّ المقتولَ ميِّتٌ بغَيرِ أجَلِه ؛ فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ المقتولَ مَيِّتٌ
بأجَلِه؛ إذ لو قُتِلَ قبْلَ أجَلِه لكان قد تَقدَّمَ الأجَلُ أو تأخَّرَ، وذلك يُنافِيهِ هذا النَّصُّ .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى:
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ على القولِ بأنَّ المُرادَ: قَومُ صالحٍ، فلعلَّ تَخصيصَهم
بالذِّكْرِ هنا دونَ عادٍ؛ خِلافًا لِمَا تكرَّرَ في غَيرِ هذه الآيةِ؛ لأنَّ العِبْرةَ بحالِهم أظهَرُ؛ لِبَقاءِ آثارِ دِيارِهم
بالحِجْرِ، كما قال تعالى:
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137- 138]
.
2- قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ
- عُدِّيَ فِعْلُ فَأَرْسَلْنَا بـ (في) دونَ (إلى)؛ لإفادةِ أنَّ الرَّسولَ كان منهم ونشَأَ فيهم؛ لأنَّ القَرْنَ لَمَّا لم يُعيَّنْ باسمٍ
ن التَّنبيهُ على أنَّ رَسولَهم منهم مَقصودًا؛ إتْمامًا للمُماثَلةِ بين حالِهم وحالِ الَّذين أُرسِلَ إليهم محمَّدٌ
صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكلامُ رسولِهم مِثْلُ كَلامِ نُوحٍ . أو لأنَّه لَمَّا كان المقصودُ الإبلاغَ في التَّسليةِ،
عُدِّيَ الفِعْلُ بـ (في)؛ دَلالةً على أنَّه عَمَّهم بالإبلاغِ، كما يَعُمُّ المَظْروفَ الظَّرفُ، حتَّى لم يدَعْ
واحِدًا منهم إلَّا أبلَغَ في أمْرِه . وقيل: لأن الأُمَّةَ أو القَريةَ جُعِلَتْ مَوضِعًا للإرسالِ، وعلى هذا المعنى
جاء (بعَثَ) في قَولِه:
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا [الفرقان: 51] .
- قولُه: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ تَعليلٌ للعِبادةِ المأْمورةِ بها، أو للأمْرِ بها، أو لِوُجوبِ الامتثالِ بهِ .
3- قولُه تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُ قَومِ هُودٍ -
على قولٍ في التفسيرِ- في جَوابِه هنا بالواوِ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ، وفي سُورةِ (الأعرافِ) وسُورةِ
(هُودٍ):
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف: 66] ،
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود: 53] ، بغَيرِ واوٍ، والفَرقُ بَينهما: أنَّ الَّذي بغَيرِ واوٍ على
تَقْديرِ سُؤالِ سائلٍ، قال: فما قال قَومُه؟ فقيل له: قالوا: كَيتَ وكَيتَ. وأمَّا الَّذي مع الواوِ،
فعَطْفٌ لِمَا قالوهُ على ما قالَهُ، ومعناه: أنَّه اجتمَعَ في الحُصولِ هذا الحَقُّ وهذا الباطِلُ،
وشتَّانَ ما هما . وقيل: جاء قولُهم بطَريقِ العَطفِ؛ لأنَّ المُرادَ حِكايةُ مُطْلَقِ تَكذيبِهم له عليه
السَّلامُ إجْمالًا، لا حِكايةُ ما جَرى بينَه عليه السَّلامُ وبَينَهم مِن المُحاوَرةِ والمُقاوَلةِ تَفْصيلًا،
حتَّى يُحْكَى بطَريقِ الاستِئنافِ المَبْنيِّ على السُّؤالِ، كما يُنبِئُ عنه ما سَيَأْتي من حِكايةِ سائرِ الأُممِ .
- وقيل: سبَبُ الاختلافِ بينَ الآياتِ: أنَّ هُودًا مكَثَ بيْن القومِ أزمنةً مُتطاوِلةً، وله معهم مَقالاتٌ ومُجادلاتٌ
في مَقاماتٍ شَتَّى، وذلك يُوجِبُ اختلافَ العِباراتِ؛ فإنَّ لكلِّ قَومٍ مَقالًا، فكان كلامُه في سُورةِ (هُودٍ) أبسَطَ
مِن هَذينِ المَوضعينِ؛ لأنَّه قد أظهَرَ فيه النَّصيحةَ التَّامَّةَ، وضَمَّ مع الأمْرِ بالعِبادةِ الأمْرَ
بالاستغفارِ والتَّوبةِ، وعَدَهم بذلك البركاتِ والخيراتِ، وكان ذلك مَظِنَّةً لِبَعثِ السَّامعِ وتَحرُّكِه على السُّؤالِ:
فما كان جَوابُ القومِ عنه بعْدَ تلك النَّصيحةِ البالغةِ؟ أمَّا في (الأعرافِ) وإنْ لم يُبْسَطْ ذلك البسْطَ، لكنْ
ذُكِرَ فيه اسمُ هُودٍ بعْدَ التَّوطئةِ بقولِه: أَخَاهُمْ [الأعراف: 65] ؛ فدَلَّ على إضمارِ النُّصحِ، بل أهَمَّ وأبلَغَ
مِن ذلك؛ فإنَّ الأُخُوَّةَ مَئِنَّةٌ لكلِّ حَدْبٍ ومَرْحمةٍ، ألَا تَرى كيف مَنَّ اللهُ تعالى على قُريشٍ بقَولِه:
لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ، بخِلافِه
هاهنا، بل طَوى اسْمَهُ أيضًا، والقومُ ما الْتَفَتوا إليه وإلى كلامِه، وما أجابوا، بلْ كانت تلك المَقالةُ
دَمْدَمةً فيما بيْنهم. واللهُ تعالى أعلَمُ بأسرارِ كَلامِهِ .
- وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّ كَلامَ الملَأِ المَحْكِيَّ هنا غيرُ كَلامِهم المَحْكِيِّ في السُّورتينِ؛ لأنَّ ما هنا كَلامُهم المُوجَّهُ
إلى خِطابِ قَومِهم، إذ قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 33] إلى آخِرِه؛ خَشيةً منهم أنْ
تُؤثِّرَ دَعوةُ رَسولِهم في عامَّتِهم، فرأَوُا الاعتناءَ بأنْ يَحُولوا دونَ تأثُّرِ نُفوسِ قَومِهم بدَعوةِ رَسولِهم أوْلى مِن
أنْ يُجاوِبوا رَسولَهم، وإنَّما لم يُعطَفْ قَولُ الملَأِ بفاءِ التَّعقيبِ، كما ورَدَ في قِصَّةِ نُوحٍ آنفًا؛ لأنَّ قَولَهم هذا كان
مُتأخِّرًا عن وَقْتِ مَقالةِ رَسولِهم الَّتي هي فاتحةُ دَعوتِه بأنْ يكونوا أجابُوا كَلامَه بالرَّدِّ والزَّجرِ، فلمَّا استمَرَّ على
دَعوتِهم وكرَّرَها فيهم، وَجَّهُوا مَقالَتَهم المَحْكيَّةَ هنا إلى قَومِهم، ومِن أجْلِ هذا عُطِفَتْ جُملةُ جَوابِهم، ولم تأْتِ على
أُسلوبِ الاستعمالِ في حِكايةِ أقوالِ المُحاوَراتِ. وأيضًا لأنَّ كَلامَ رَسولِهم لم يُحْكَ بصِيغةِ القولِ، بل حُكِيَ بـ (أنْ)
التَّفسيريَّةِ لِمَا تَضمَّنَه معنى الإرسالِ في قولِه:
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [المؤمنون: 32] .
- قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا وُصِفُوا بذلك؛ ذَمًّا لهم، وتَنبيهًا على غُلُوِّهم في الكُفْرِ . وتأْخيرُه عن مِنْ قَوْمِهِ؛ لِيتَّصِلَ
به الصِّفتانِ المَعطوفتانِ مِن قولِه: وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ .
- قولُه: وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في هَذينِ الوَصفينِ إشارةٌ إلى أنَّهما الباعِثُ على
تَكذيبِهم رَسولَهم؛ لأنَّ تَكذيبَهم بلِقاءِ الآخرةِ يَنْفِي عنهم تَوقُّعَ المُؤاخَذةِ بعْدَ الموتِ، وثَروتُهم
ونِعْمتُهم تُغْرِيهم بالكِبْرِ والصَّلَفِ؛ إذ ألِفُوا أنْ يَكونوا سادةً لا تَبَعًا .
- قولُه: بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فيه إيثارُ التَّعبيرِ بـ مِثْلُكُمْ على (مِثْلنَا)؛ للمُبالَغةِ في تَهوينِ أمْرِه عليه
السَّلامُ وتَوهينِه . وهو كِنايةٌ عن تَكذيبِه في دَعْوى الرِّسالةِ؛ لِتَوهُّمِهم أنَّ البشريَّةَ
تُنافِي أنْ يكونَ صاحِبُها رسولًا مِن اللهِ، فأتَوْا بالملزومِ وأرادوا لَازِمَه .
- وجُملةُ: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ في مَوقِعِ التَّعليلِ والدَّليلِ للبَشريَّةِ؛ لأنَّه يأكُلُ
مِثْلَهم ويَشرَبُ مِثْلَهم، ولا يَمتازُ فيما يأْكُلُه وما يَشرَبُه .
- قولُه: وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أي: ممَّا تَشربونَ منه، وحسَّنَ هذا الحذْفَ
ورَجَّحَه كَونُ تَشْرَبُونَ فاصِلةً، ولدَلالةِ مِنْهُ عليه في قولِه: مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ .
4- قوله تعالى: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
- قولُه: إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ وقَعَ إِذًا بينَ اسْمِ (إنَّ) وخبَرِها؛ لِتأْكيدِ مَضمونِ الشَّرطِ. و
الجُملةُ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحذوفٍ، أي: وباللهِ لئنْ أطعْتُم بشَرًا... .
5- قولُه تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ استئنافٌ مَسوقٌ
لِتَقريرِ ما قبْلَه مِن زَجْرِهم عن اتِّباعِه عليه السَّلامُ، بإنكارِ وُقوعِ ما يَدْعُوهم إلى الإيمانِ به واستِبعادِه .
- وفي قولِهم: أَيَعِدُكُمْ اسْتَفْهَموا استفهامَ استبعادٍ وتَوقيفٍ واستهزاءٍ . أو استفهامَ تَعجُّبٍ،
وهو انتقالٌ مِن تَكذيبِه في دَعْوى الرِّسالةِ إلى تَكذيبِه في المُرْسَلِ به .
- وكَلِمةُ أَنَّكُمْ في أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ إعادةٌ لِكَلمةِ (أنَّكم) الأُولى، وحسَّنَ إعادتَها بُعْدُ ما بيْنَها وبينَ
خبَرِها. وتُفِيدُ إعادتُها تأكيدًا للمُستفهَمِ عنه استفهامَ استبعادٍ؛ تأكيدًا لاستِبعادِه .
- وَتقديمُ التُّرابِ في قولِه: تُرَابًا وَعِظَامًا؛ لِعَراقَتِه في الاستِبعادِ .
6- قولُه تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ فيه تَكريرُ هَيْهَاتَ؛ لتأْكيدِ البُعْدِ .
- اللَّامُ في قولِه: لِمَا تُوعَدُونَ للبَيانِ؛ كأنَّهم لَمَّا صَوَّتوا بكلمةِ الاستبعادِ، قيل: فما له هذا
الاستبعادُ؟ قالوا: لِمَا تُوعَدُونَ ؛ فجاء ما بَعْدَ هَيْهَاتَ مَجْرورًا باللَّامِ، فاسْتُغْنِيَ عن فاعِلِها
للعِلْمِ به ممَّا يَسْبِقُها مِن الكلامِ؛ لأنَّها لا تقَعُ غالِبًا إلَّا بَعْدَ كلامٍ، وتكونُ اللَّامُ للتَّبيينِ،
أي: إيضاحِ المُرادِ مِن الفاعِلِ، فيَحصُلُ بذلك إجمالٌ ثمَّ تَفصيلٌ
يُفِيدُ تَقْويةَ الخبَرِ، وهذه اللَّامُ تَرجِعُ إلى لامِ التَّعليلِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء هنا فِعْلُ تُوعَدُونَ مِن (أوعَدَ)، وجاء قبْلَه فِعْلُ أَيَعِدُكُمْ، وهو مِن (وعَدَ)، مع
أنَّ الموعودَ به شَيءٌ واحدٌ؛ قيل: لأنَّ الأوَّلَ راجِعٌ إليهم في حالِ وُجودِهم، فجُعِلَ وَعْدًا، والثَّانِيَ راجِعٌ إلى
حالَتِهم بعْدَ الموتِ والانعدامِ؛ فناسَبَ التَّعبيرُ عنه بالوعيدِ. أو الأحسَنُ أنَّه عبَّرَ مرَّةً بالوعْدِ ومرَّةً بالوعيدِ
على وَجْهِ الاحتباكِ ؛ فإنَّ إعلامَهم بالبَعثِ مُشتمِلٌ على وَعْدٍ بالخيرِ إنْ صَدَّقوا،
وعلى وَعيدٍ إنْ كَذَّبوا، فذُكِرَ الفِعْلانِ على التَّوزيعِ إيجازًا .
7- قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
- قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا يَجوزُ أنْ يكونَ بَيانًا للاستبعادِ الَّذي في قولِه: هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ،
أو استدلالًا وتَعليلًا له، ولِكَلا الوَجْهينِ كانت الجُملةُ مَفصولةً عنِ الَّتي قبْلَها، أي: لم تُعْطَفْ عليها .
- قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا أصْلُه: (إنِ الحياةُ إلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)، أُقِيمَ الضَّميرُ مُقامَ الأُولى؛ لدَلالةِ
الثَّانيةِ عليها؛ حَذَرًا عن التَّكريرِ، وإشعارًا بأنَّ تَعيُّنَها مُغْنٍ عن التَّصريحِ بها ؛ فضَميرُ (هي)
عائدٌ إلى ما لم يَسْبِقْ في الكلامِ، بل عائدٌ على مَذكورٍ بَعْدَه؛ قَصْدًا للإبهامِ ثمَّ التَّفصيلِ؛ لِيَتمكَّنَ المَعْنى
في ذِهْنِ السَّامعِ .- وجُملةُ: نَمُوتُ وَنَحْيَا مُفسِّرةٌ لِمَا ادَّعَوهُ مِن أنَّ الحياةَ هي الحياةُ
الدُّنيا، أي: يَموتُ بَعْضُنا ويُولَدُ بَعضٌ إلى انقراضِ العصرِ .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ عَطْفٌ على جُملةِ نَمُوتُ وَنَحْيَا باعتبارِ اشتمالِها على إثباتِ
حَياةٍ عاجلةٍ ومَوتٍ؛ فإنَّ الاقتصارَ على الأمْرينِ مُفِيدٌ للانحصارِ في المَقامِ الخِطابيِّ، مع
قَرينةِ قولِه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وأفادَ صَوغُ الخبَرِ في الجُملةِ الاسميَّةِ تَقْويةَ مَدْلولِه وتَحقيقَه .
8- قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
- جُملةُ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا مُستأْنفةٌ؛ لأنَّها مُسْتقِلَّةٌ على ما تَقدَّمَها؛ فهي تَصريحٌ بما كُنِّيَ
عنه آنفًا في قولِه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وما بَعْدَه مِن تَكذيبِ دَعوتِه، وجُملةُ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا صِفَةٌ لـ رَجُلٌ،
وهي مُنْصَبُّ الحَصْرِ؛ فهو مِن قَصْرِ الموصوفِ على الصِّفةِ قَصْرَ قَلْبٍ إضافيًّا ، أي: لا كما يَزعُمُ أنَّه
مُرسَلٌ مِن اللهِ. وإنَّما أجْرَوا عليه أنَّه رجَلٌ؛ مُتابَعةً لِوَصْفِه بالبشريَّةِ في قولِهم: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؛
تَقريرًا لِدَليلِ المُماثَلةِ المُنافِيةِ للرِّسالةِ في زَعْمِهم، أي: زيادةٌ على كَونِه رجُلًا مِثْلَهم فهو رجُلٌ كاذِبٌ .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ إنَّما صَرَّحوا بأنَّهم لا يُؤْمِنون به، مع دَلالةِ نِسْبتِه إلى الكذِبِ على أنَّهم
لا يُؤمِنون به؛ إعلانًا بالتَّبرِّي مِن أنْ يَنخدِعوا لِمَا دَعاهم إليه، وهو مُقْتَضى حالِ
خِطابِ العامَّةِ. وأفادَتِ الجُملةُ الاسميَّةُ التَّقويةَ .
9- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما حُكِيَ مِن صَدِّ الملَأِ النَّاسَ عن
اتِّباعِه، وإشاعَتِهم عنه أنَّه مُفْترٍ على اللهِ، وتَلْفيقِهم الحُجَجَ الباطلةَ على ذلك: ممَّا يُثِيرُ سُؤالَ
سائلٍ عمَّا كان مِن شأْنِه وشأْنِهم بَعْدَ ذلك؛ فيُجابُ بأنَّه تَوجَّهَ إلى اللهِ الَّذي أرسلَهُ بالدُّعاءِ بأنْ يَنصُرَه عليهم .
10- قولُه تعالى: قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ جاء جَوابُ دُعاءِ هذا الرَّسولِ غيرَ مَعطوفٍ؛ لأنَّه جَرى على أُسلوبِ حِكايةِ المُحاوَراتِ .
- و(ما) في قولِه: عَمَّا قَلِيلٍ صِلَةٌ بين الجارِّ والمجرورِ؛ لتأْكيدِ مَعْنى القِلَّةِ .
11- قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- الفاءُ في قولِه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أفادَتْ تَعجيلَ إجابةِ دَعوةِ رَسولِهم .
- وفي قولِه: فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً شَبَّهَهم في دَمارِهم بغُثاءِ السَّيلِ، وهو حَمِيلُ السَّيلِ، وهو تَشبيهٌ بَليغٌ للهيئةِ؛ فهو تَشبيهُ حالةٍ بحالةٍ .
- قولُه: فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فرَّعَ على حِكايةِ تَكذيبِهم دُعاءً عليهم وعلى أمثالِهم دُعاءَ شَتْمٍ وتَحقيرٍ بأنْ يَبْعَدُوا؛ تَحقيرًا لهم وكراهيةً، وليس مُستعمَلًا في حَقيقةِ الدُّعاءِ؛ لأنَّ هؤلاء قد بَعِدُوا بالهلاكِ . وقيل: يَحتمِلُ الإخبارَ والدُّعاءَ، ووَضْعُ الظَّاهرِ الظَّالِمِينَ مَوضِعَ ضَميرِهم للتَّعليلِ .
- واللَّامُ في قولِه: لِلْقَوْمِ للتَّبْيينِ، وهي مُبيِّنةٌ للمقصودِ بالدُّعاءِ؛ زِيادةً في البَيانِ، كما في قولِهم: سُحقًا لك وتَبًّا له، فإنَّه لو قِيلَ: (فبُعْدًا) لَعُلِمَ أنَّه دُعاءٌ عليه، فبِزيادةِ اللَّامِ يَزِيدُ بَيانُ المَدْعُوِّ عليهم، وهي مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ مُستأْنَفٍ للبَيانِ .
- واخْتِيرَ الوَصْفُ بالظُّلمِ هنا؛ لأنَّ هؤلاءِ ظَلَموا أنفُسَهم بالإشراكِ، وظَلَموا نبيَّهم بزَعْمِهم أنَّه تَعمَّدَ الكذِبَ على اللهِ؛ إذ قالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون: 38] . والتَّعريفُ في الظَّالِمِينَ للاستِغراقِ؛ فشَمِلَهم؛ ولذلك تكونُ الجُملةُ بمَنزِلةِ التَّذييلِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قالَه هنا: لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بالتَّعريفِ، وقال بَعْدُ في سُورةِ (المُؤمِنون) أيضًا: فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 44] بالتَّنكيرِ؛ ووَجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى في أُمَّةٍ مُعيَّنةٍ؛ قد بُيِّنَ حالُها وقَبِيحُ مُرْتَكَبِها، وتَحصَّلَ العِلْمُ بكُفْرِهم وظُلْمِهم أنفُسَهم، فقِيلَ: فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وأمَّا قولُه بَعْدُ: فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ؛ فورَدَ عقِبَ إجمالِ إخبارٍ بطوائفَ وأُمَمٍ اجْتَمَعوا في التَّكذيبِ ورَدِّ ما جاءَتْهم به رُسُلُهم، فأُعْقِبَ بوَصْفٍ إذا وُجِدَ كان ما سِواهُ مِن قَولٍ وعمَلٍ مُناسِبًا له وبِحَسبِه، وهو عدَمُ الإيمانِ، ولم يكُنْ وَصْفُهم بالظُّلمِ لِيُعطِيَ ذلك؛ لِوُقوعِه على الظُّلمِ بالكُفْرِ وعلى الظُّلمِ بمَعصيةٍ، والمعصيةُ ليست كُفْرًا، أمَّا مَن اتِّصَفَ بعَدمِ الإيمانِ، فلا فَلاحَ معه، فلمَّا اجتمَعَ هؤلاء الطَّوائفُ في عدَمِ الإيمانِ وُسِمُوا به، ولمَّا كان عدَمُ الإيمانِ حاصلًا لمَن تَقدَّمَ بما ذُكِرَ مِن تَكذيبِهم، وأخْذِهم بالصَّيحةِ، وجَعْلِهم غُثاءً: أُعْقِبَ وَصْفُهم بما يُنبِئُ بالزِّيادةِ على كُفْرِهم؛ إذِ الكُفْرُ حاصِلٌ. والآيةُ الثَّانيةُ لم يَقَعْ في ذِكْرِ هؤلاء تَفصيلُ مُرْتَكباتِهم كما ورَدَ فيمَن تَقدَّمَهم؛ فناسَبَ إجْمالَ الواقِعِ مِن التَّكذيبِ إجْمالُ الوَصْفِ بعَدمِ الإيمانِ، وجاء كلٌّ مِن ذلك على ما يُناسِبُه .
12- قولُه تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ، والفَصلُ بينَ المَعْطوفينِ بهذه الجُملةِ المُعترِضةِ، النَّاطقةِ بعدَمِ تقدُّمِ الأُمَمِ أجَلَها المَضْروبَ لِهَلاكِهم؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ هَلاكِهم على وَجْهٍ إجماليٍّ .
- ولعلَّه عبَّرَ بالمُضارِعِ في قولِه: مَا تَسْبِقُ إشارةً إلى أنَّه ما كان شَيءٌ مِن ذلك ولا يكونُ، وأشارَ إلى الاستِغراقِ بقولِه: مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا أي: الَّذي قَدَّرناهُ لِهَلاكِها وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ؛ فـ (مِنْ) في قولِه: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا مَزيدةٌ؛ للاستغراقِ .
- والسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: يَسْتَأْخِرُونَ زائدتانِ؛ للتَّأكيدِ . وقيل: صيغةُ الاستفعالِ (يستئخرون) للإشعارِ بعجزِهم عن ذلك معَ طلبِهم له .
السابق
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (44-50)
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
غريب الكلمات:
تَتْرَى: أي: تتواترُ واحدًا بعدَ واحدٍ، ويتبعُ بعضُهم بعضًا، وهو مِنَ المُواتَرةِ، أي: المُتابَعةِ، أو: مِن الوِتْرِ، وهو الفَرْدُ .
أَحَادِيثَ: أي: أخبارًا وعِبَرًا يُتَمَثَّلُ بهم فِي الشَّرِّ، أو يُتحدَّثُ بهلاكِهم، ولا يُقالُ: جعلتُه حديثًا في الخيرِ. وأصلُ (حدث): كونُ الشَّيءِ لم يَكُنْ، والحديثُ مِن هذا؛ لأنَّه كلامٌ يَحْدُثُ منه الشَّيءُ بعدَ الشَّيءِ .
وَسُلْطَانٍ: أي: حُجَّةٍ، وأصْلُ (سلط): القُوَّةُ والقَهْرُ؛ ولذلكَ سُمِّيَ السُّلطانُ سُلْطانًا .
آَيَةً: أي: عَلَمًا ودَليلًا، وأمارةً قَاطِعةً، وهي مُشتقَّةٌ مِن التأيِّي الذي هو التثبُّتُ، والإقامةُ على الشيءِ .
رَبْوَةٍ: قِيلَ: إنَّها دِمشقُ، وقيل: أرضُ بَيتِ المَقْدِسِ، والرَّبوةُ: المكانُ المُرتفِعُ مِن الأرضِ، وأصْلُ (ربو): العُلُوُّ والزِّيادةُ والنَّماءُ .
ذَاتِ قَرَارٍ: أي: مُسْتقَرٍّ، أو مُسْتويةٍ يَستقِرُّ عليها ساكِنُوها، وأصْلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ .
وَمَعِينٍ: أي: مَاءٍ ظَاهرٍ جَارٍ، يُقالُ: معَن الماءُ: أي: جرَى، وأصْلُ (معن): يدُلُّ على سُهولةٍ في جَرَيانٍ، أو غيرِ ذلك .
المعنى الإجمالي:
يخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أرسَلَ رُسُلَه يَتبَعُ بَعضُهم بَعضًا، إلى أُمَمٍ أُخرى بعدَ أولئك القَومِ المُهلَكينَ، كلَّما أتى رَسولٌ أُمَّتَه كَذَّبوه ولم يَقْبَلوا ما جاء به مِن الحقِّ، فأتْبَع اللهُ بَعضَهم بَعضًا بالهَلاكِ وعَذابِ الاستِئصالِ، وجعَلهم أخبارًا للناسِ يتحدَّثون بها عنهم. فبُعدًا مِن رحمةِ الله لقَومٍ لا يُؤمِنونَ.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّه أرسَل بعدَهم مُوسى وأخاهُ هارونَ بمُعجِزاتِه وحُجَّةٍ بَيِّنةٍ واضِحةٍ إلى فِرعونَ وسادةِ قومِه وأشرافِهم، فاستَكبَروا عنِ الإيمانِ واتِّباعِ الحقِّ، وكانوا قَومًا مُتطاوِلينَ على النَّاسِ، قاهِرينَ لبني إسرائيلَ ظالمينَ لهم، فقال فِرعونُ ومَلَؤُه: أنُصَدِّقُ فَردَينِ مِن البشرِ مِثْلنا، وقَومُهما مُطيعونَ مُتذَلِّلونَ لنا؟! فكَذَّبوهما فكانوا مِنَ المُهلَكينَ غرقًا في البَحرِ.
ويخبِرُ تعالى أنَّه آتَى مُوسَى التَّوراةَ؛ لِيَهتَديَ بها قَومُه مِن بني إسرائيلَ إلى الحَقِّ، وجعَل عيسَى ابنَ مَريمَ وأُمَّه علامةً دالَّةً على قُدرَتِه سبحانه على خَلقِ ما يشاءُ؛ إذ خلَقه مِن أمٍّ بغيرِ أبٍ، وجعَل لهما مأوًى في مكانٍ مُرتَفعٍ مِنَ الأرضِ، مُستَوٍ مُستَقِرٍّ، وفيه ماءٌ جارٍ ظاهِرٌ للعُيونِ.
تفسير الآيات:
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44).
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى.
أي: ثمَّ أرسَلْنا رُسُلَنا مُتواتِرينَ يَتبَعُ بَعضُهم بَعضًا، واحدًا بعدَ واحدٍ؛ إلى أُمَمٍ أُخرى بعد أولئك القَومِ المُهلَكينَ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ.
أي: كلَّما جاء رَسولٌ إلى أُمَّةٍ مِن تلك الأُمَمِ كَذَّبوه، فلم يَقبَلوا ما جاء به مِنَ الحَقِّ .
كما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30] .
وقال سُبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34] .
فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا.
أي: فأهلَكْنا تِلك الأُمَمَ بعَذابِ الاستِئصالِ؛ بَعضَهم في إثْرِ بَعضٍ .
كما قال سُبحانَه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ [الأنبياء: 11] .
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ.
أي: وصَيَّرْناهم أخبارًا للنَّاسِ يتحَدَّثونَ بها عنهم .
فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ.
أي: فبُعدًا مِن رَحمةِ اللهِ وهَلاكًا لقَومٍ لا يُؤمِنونَ بوَحدانيَّةِ اللهِ، ويُكَذِّبونَ رُسُلَه .
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45).
أي: ثمَّ أرسَلْنا بَعدَ أولئك الرُّسُلِ مُوسى وأخاهُ هارونَ بمُعجِزاتِنا وحُجَّةٍ بَيِّنةٍ واضِحةٍ .
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46).
أي: إلى فِرعَونَ وأشرافِ قَومِه، فاستَكبَروا عنِ الإيمانِ واتِّباعِ الحَقِّ الَّذي جاءَهم مِن عندِ اللهِ، وكانوا قَومًا قاهِرينَ لبني إسرائيلَ ظالِمينَ لهم، خُلُقُهم وسَجِيَّتُهم الكِبْرُ .
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47).
أي: فقال فِرعَونُ ومَلَؤُه: أنُصدِّقُ مُوسى وهارونَ ونُقِرُّ لهما، وهما بَشَرانِ مِثلُنا في المأكَلِ والمَشرَبِ وغَيرِهما مِمَّا يَعْتري أحوالَ البَشَرِ، وقَومُهما لنا مُطيعونَ ذَليلونَ خاضِعونَ؟! فكيف نَتَّبِعُهما ؟!
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48).
أي: فكذَّب فِرعَونُ ومَلَؤُه مُوسى وهارونَ، فأغرَقَهم اللهُ، فكانوا ممَّنْ أهلكهم الله؛ لِتَكذيبِهم رُسُلَ اللهِ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا [الفرقان: 35، 36].
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان ضَلالُ بني إسرائيلَ -الَّذين اسْتنقَذَهُم اللهُ تعالى مِن عُبوديَّةِ فِرعونَ وقَومِه- أعجَبَ، وكان السَّامعُ مُتشوِّفًا إلى ما كان مِن أمْرِهم بَعدَ نَصْرِهم؛ ذَكَرَ ذلك .
وأيضًا لَمَّا ذُكِرَت دَعوةُ مُوسى وهارونَ لِفِرعونَ ومَلَئِه، وما ترتَّبَ على تَكذيبِهم مِن إهلاكِهم، أُكْمِلَت قِصَّةُ بَعثةِ مُوسى عليه السَّلامُ بالمُهِمِّ منها الجاري، ومِن بَعثةِ مَن سلَفَ مِنَ الرُّسلِ المُتقدِّمِ ذِكْرُهم، وهو إيتاءُ مُوسى عليه السَّلامُ الكِتابَ لِهِدايةِ بني إسرائيلَ لِحُصولِ اهتِدائِهم؛ لِيَبْنِيَ على ذلك الاتِّعاظَ بخلافِهم على رُسلِهم في قولِه بَعدَ ذلك: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا [المؤمنون: 53]؛ فإنَّ مَوعِظةَ المُكذِّبينَ رَسولَهم بذلك أَوْلى .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49).
أي: ولقدْ آتَينا مُوسى التَّوراةَ؛ كي يَهتَديَ بنو إسرائيلَ باتِّباعِها .
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان مَن ذُكِرَ كلُّهم قد رَدُّوا مَن جاءهم؛ لإشعارِهم اسْتِبعادَهم لأنْ يكونَ الرُّسلُ بَشَرًا، وكان بعضُ بني إسرائيلَ الَّذين أعَزَّهُم اللهُ ونصَرَهم على عَدُوِّهم، وأوضَحَ لهم الطَّريقَ بالكتابِ قدِ اتَّخَذوا عيسى-مع كونِه بَشرًا- إلهًا: أتْبَعَ ذلك ذِكْرَه؛ تَعجيبًا مِن حالِ المُكذِّبينَ في هذا الصُّعودِ بَعدَ ذلك النُّزولِ في أمْرِ مَن أُرْسِلوا إليهم، وجَرَتْ على أيدِيهم الآياتُ لِهِدايتِهم، فقال :
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً.
أي: وجعَلْنا عِيسى ابنَ مَريمَ وأُمَّه مَريمَ حُجَّةً عَجيبةً واضِحةً للنَّاسِ، تدُلُّهُم على قُدرةِ اللهِ على خَلقِ ما يَشاءُ؛ حيثُ خَلَقَ عِيسى مِن أُمٍّ بلا أبٍ !
كما قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم: 21] .
وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ.
أي: وصَيَّرْنا عِيسى وأُمَّه مَريمَ إلى مَكانٍ مُرتَفِعٍ مِنَ الأرضِ، مُستَوٍ مُستَقِرٍّ، وفيه نَهرٌ جارٍ ظاهِرٌ للعِيَانِ .
كما قال تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم: 22- 25] .
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ، فلم تُغْنِ عن فِرْعونَ ومَلَئِه قُوَّتُهم في أنفُسِهم، ثُمَّ قُوَّتُهم على خُصوصِ بني إسرائيلَ باستِعْبادِهم إيَّاهم، ولا ضَرَّ بني إسرائيلَ ضَعْفُهم عن دِفاعِهم، ولا ذُلُّهم لهم وصَغارُهم في أيدِيهم .
2- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ فإذا عرَفَ الإنسانُ قَصَصَ الأنبياءِ ومَن اتَّبَعهم، ومَن كذَّبهم، وأنَّ مُتَّبِعيهم كان لهم النَّجاةُ والعاقِبةُ والنَّصرُ والسَّعادةُ، ولِمُكَذِّبِهم الهَلاكُ والبَوارُ؛ جَعَل الأمرَ في المُستقبَلِ مِثلَما كان في الماضي، فعَلِمَ أنَّ مَن صَدَّقَهم كان سَعيدًا، ومَن كذَّبهم كان شَقيًّا. وهذه سُنَّةُ اللهِ وعادتُه .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [المؤمنون: 44 - 49] ، ذكَر بعضُهم أنَّه بَعْدَ بَعْثِ مُوسى ونُزولِ التَّوراةِ رفَعَ اللهُ العذابَ عن الأُمَمِ، أي: عذابَ الاستِئصالِ، وشرَعَ للمُكذِّبينَ المُعانِدينَ الجِهادَ، وبتدبُّرِ هذه الآياتِ مع الآياتِ التي في سورةِ (القَصصِ) يَتبيَّنُ وجهُ هذا الكلامِ؛ فإنَّ اللهَ في هذه الآياتِ ذكَرَ الأُمَمَ المُهْلَكةَ المُتتابِعةَ على الهَلاكِ، ثمَّ أخبَرَ أنَّه أرسَلَ مُوسى بَعْدَهم، وأنزَلَ عليه التَّوراةَ فيها الهِدايةُ للنَّاسِ، ولا يَرِدُ على هذا: إهْلاكُ فِرعونَ؛ فإنَّه قَبْلَ نُزولِ التَّوراةِ، وأمَّا الآياتُ الَّتي في سُورةِ (القَصصِ) فهي صَريحةٌ جِدًّا؛ فإنَّه لَمَّا ذكَرَ هَلاكَ فِرعونَ، قال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43] ، فهذا صَريحٌ أنَّه آتاهُ الكِتابَ بَعدَ هَلاكِ الأُمَمِ الباغيةِ، وأخبَرَ أنَّه أنزَلَه بَصائرَ للنَّاسِ وهدًى ورَحمةً، ولعلَّ مِن هذا: ما ذكَرَ اللهُ في سُورةِ (يُونس) مِن قَولِ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ، أي: مِن بَعدِ نُوحٍ، رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ الآياتِ [يونس: 74، 75]، واللهُ أعلَمُ .
2- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مُعجزاتِ مُوسى عليه السَّلامُ كانت مُعجزاتِ هَارونَ عليه السَّلامُ أيضًا، وأنَّ النُّبوَّةَ كما أنَّها مُشترِكةٌ بيْنهما، فكذلك المُعْجِزاتُ .
3- قولُه تعالى -إخبارًا عن فِرْعونَ ومَلَئِه-: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ دليلٌ على أنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُه يُجْري نَقْضَ ضَلالةِ الضَّالِّينَ على ألْسِنَتِهم، فلا يَشْعُرون بها ولا أتْباعُهم؛ لِيُحِقَّ كَلِمَتَه على مَن قَضى عليه الشِّقوةَ، أَلَا ترَى أنَّ فِرعونَ مع ادِّعائِه الرُّبُوبيَّةَ قال مع مَلَئِه: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا، ولم يَحْتَرِزْ مِن تَسميةِ نَفْسِه بَشرًا، وقد سمَّاها ربًّا لا مَلَؤُه !! وكذلك فقد أنكَر أنْ يكونَ الرسولُ بشرًا معَ أنَّه ادَّعَى لنفْسِه الربوبيةَ والإلهيةَ وهو بشرٌ.
4- قال اللهُ تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً نسَبَه إليها؛ تَحقيقًا لكَونِه لا أبَ له، وكَونِه بَشرًا مَحمولًا في البَطنِ مَولودًا، لا يَصلُحُ لِرُتبةِ الإلهيَّةِ؛ وزاد في تَحْقيقِ ذلك بقولِه: وَأُمَّهُ .
5- قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً لمَّا كانتْ آيةُ عِيسى العُظْمَى في ذاتِهِ في كَيفيَّةِ تَكوينِه، كان الاهتمامُ بذِكْرِها هنا، ولم تُذْكَرْ رِسالتُه؛ لأنَّ مُعجزةَ تَخليقِه دالَّةٌ على صِدْقِ رِسالَتِه .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث أضاف اللهُ عَزَّ وجَلَّ الرُّسلَ إليه في قولِه: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا؛ وأضافَها إلى الأُمَمِ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا؛ لأنَّ الإضافةَ تكونُ بالمُلابَسةِ، والرَّسولُ مُلابِسٌ المُرسِلَ والمُرسَلَ إليه جميعًا؛ فالأوَّلُ كانتِ الإضافةُ لِتَشريفِ الرُّسلِ، والثَّاني كانتِ الإضافةُ إلى الأُمَّةِ، حيث كذَّبَتْه ولم يَنجَحْ فيهم إرسالُه إليهم؛ فناسَبَ الإضافةُ إليهم . وقيل: إضافةُ الرَّسولِ مع الإرسالِ إلى المُرسِلِ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا، ومع المَجِيءِ إلى المُرسَلِ إليهم كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا؛ لأنَّ الإِرسالَ الَّذي هو مَبدَأُ الأمْرِ منه، والمَجِيءَ الَّذي هو مُنتهاهُ إليهم . وقيل: إضافةُ الرَّسولِ إلى الأُمَّةِ مع إضافةِ كُلِّهم فيما سبَقَ إلى نُونِ العَظمةِ؛ لِتَحقيقِ أنَّ كلَّ رَسولٍ جاء أُمَّتَه الخاصَّةَ به، لا أنَّ كلَّهم جاؤوا كلَّ الأُمَمِ، والإشعارِ بكَمالِ شَناعتِهم وضَلالِهم؛ حيثُ كذَّبَتْ كلُّ واحدةٍ منهُم رسولَها المُعيَّنَ لها .
- قولُه: كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ استِئنافٌ مُبيِّنٌ لِمَجيءِ كلِّ رسولٍ لأُمَّتِه، ولِمَا صدَرَ عنهم عندَ تَبْليغِ الرِّسالةِ، والمُرادُ بالمَجِيءِ إمَّا التَّبليغُ، وإمَّا حَقيقةُ المَجيءِ؛ للإيذانِ بأنَّهم كذَّبوه في أوَّلِ المُلاقاةِ .
- قولُه: فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا كِنايةٌ عن إبادتِهم .
- قوله: فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، وقال قبلَها: فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 41] ، فنِيطَ الدُّعاءُ هنا بوَصْفِ أنَّهم لَا يُؤْمِنُونَ؛ لِيَحصُلَ مِن مَجموعِ الدعوتينِ التَّنبيهُ على مَذمَّةِ الكُفْرِ، وعلى مَذمَّةِ عَدَمِ الإيمانِ بالرُّسلِ؛ تَعريضًا بمُشركِي قُريشٍ، على أنَّه يَشمَلُ كلَّ قَومٍ لا يُؤمِنون برُسلِ اللهِ؛ لأنَّ النَّكرةَ في سِياقِ الدُّعاءِ تعُمُّ .
- وأيضًا في قولِه: فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ اقْتُصِرَ على وَصْفِهم بعَدمِ الإيمانِ حَسَبَما اقْتُصِرَ على حِكايةِ تَكذيبِهم إجْمالًا، وأمَّا القُرونُ الأَوَّلُون فحيث نُقِلَ عنهم ما مَرَّ مِن الغُلوِّ وتَجاوُزِ الحدِّ في الكُفرِ والعُدوانِ، وُصِفوا بالظُّلمِ .
2- قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ
- إضافةُ الآياتِ في قولِه: بِآَيَاتِنَا إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ للتَّنويهِ بها وتَعظيمِها .
- وقولُه: وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ على القولِ بأنَّ المُرادَ بالسُّلطانِ المُبِينِ العَصا؛ فيكونُ فيه إفرادُها بالذِّكْرِ مع اندراجِها في الآياتِ؛ لأنَّها أُمُّ آياتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُولاها، وقد تعلَّقَتْ بها مُعجِزاتٌ شَتَّى، جُعِلَت كأنَّها ليست بَعْضَ الآياتِ؛ لِمَا استبَدَّتْ به مِن الفَضلِ. وعلى أنَّ المُرادَ بالسُّلطانِ نفْسُ الآياتِ؛ فيكونُ عبَّرَ عنها بذلك على طَريقةِ العَطْفِ؛ تَنبيهًا على جَمْعِها لِعُنوانينِ جَليلينِ، وتَنزيلًا لِتَغايُرِهما مَنزِلةَ التَّغايُرِ الذَّاتيِّ . أو جُرِّدَ مِن نَفْسِ الآياتِ سُلطانٌ مُبِينٌ، وعُطِفَ عليها؛ مُبالغةً، وهو هي .
3- قوله تعالى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ
- قولُه: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ خُصَّ الملَأُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ إرسالَ بني إسرائيلَ مَنوط ٌبآرائِهم لا بآراءِ أعقابِهم ؛ فجُعِلَ الإرسالُ إليهم دونَ بَقِيَّةِ أُمَّةِ القِبْطِ؛ لأنَّ دَعوةَ مُوسى وأخيه إنَّما كانت خِطابًا لِفِرعونَ وأهْلِ دَولتِه الَّذين بِيَدِهم تَصريفُ أُمورِ الأُمَّةِ لِتَحريرِ بني إسرائيلَ مِن استِعْبادِهم إيَّاهم؛ قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [طه: 47] ، ولم يُرسَلَا بشَريعةٍ إلى القِبْطِ، وأمَّا الدَّعوةُ إلى التَّوحيدِ فمُقَدِّمةٌ لإثباتِ الرِّسالةِ لهم .
- وعَطْفُ فَاسْتَكْبَرُوا بفاءِ التَّعقيبِ يُفِيدُ أنَّهم لم يتأَمَّلوا الدَّعوةَ والآياتِ والحُجَّةَ، ولكنَّهم أفْرَطوا في الكِبْرياءِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للتَّوكيدِ .
- قولُه: وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بينَ فِعْلِ (اسْتَكْبَرُوا) وما تفرَّعَ عليه مِن قولِه: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ، مُقرِّرةٌ للاستكبارِ، وأفاد وَصْفُ القومِ باسْمِ الفاعِلِ عَالِينَ تَمكُّنَ ذلك الوَصفِ مِن الموصوفِ بلَفْظِ (قوم)، أو تَمكُّنَه مِن أولئك القومِ؛ فأفادَ أنَّ استكبارَهم على تَلقِّي دَعوةِ مُوسى وآياتِه وحُجَّتِه إنَّما نشَأَ عن سَجِيَّتِهم مِن الكِبْرِ وتَطبُّعِهم، وبُيِّنَ ذلك بالتَّفريعِ بقولِه: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ؛ فهو مُتفرِّعٌ على قولِه: فَاسْتَكْبَرُوا .
4- قولُه تعالى: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ عَطْفٌ على اسْتَكْبَرُوا، وما بيْنهما اعتراضٌ .
- والاستفهامُ في قولِه: أَنُؤْمِنُ استفهامٌ إنكاريٌّ .
- وجُملةُ: وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ حالٌ مِن فاعِلِ (نُؤْمِنُ)، مُؤكِّدةٌ لإنكارِ الإيمانِ لهما؛ كأنَّهم قَصَدوا بذلك التَّعريضَ بشأْنِهما عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وحَطَّ رُتْبتِهما العَلِيَّةِ عن مَنصِبِ الرِّسالةِ مِن وَجْهٍ آخَرَ غيرِ البَشريَّةِ. واللَّامُ في لَنَا مُتعلِّقةٌ بـ عَابِدُونَ؛ قُدِّمَت عليه رِعايةً لِفَواصِلِ الآياتِ .
5- قولُه تعالى: فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ تفرَّعَ على قَولِهم التَّصميمُ على تَكذيبِهم إيَّاهما المَحْكِيِّ بقولِه: فَكَذَّبُوهُمَا، ثمَّ فرَّعَ على تَكذيبِهم أنْ كانوا مِن المُهلَكينَ؛ إذ أهلَكَهم اللهُ بالغرَقِ، أي: فانْتَظَموا في سِلْكِ الأقوامِ الَّذينَ أُهْلِكوا، وهذا أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: فأُهْلِكوا. والتَّعقيبُ هنا تَعقيبٌ عُرفيٌّ؛ لأنَّ الإغراقَ لمَّا نشَأَ عن التَّكذيبِ، فالتَّكذيبُ مُستمِرٌّ إلى حينِ الإهلاكِ .
- وفيه تَعريضٌ بتَهديدِ قُريشٍ على تَكذيبِهم رسولَهم صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ في قولِه: مِنَ الْمُهْلَكِينَ إشارةً إلى أنَّ الإهلاكَ سُنَّةُ اللهِ في الَّذينَ يُكذِّبون رُسلَهُ .
6- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أُعِيدَ ذِكْرُ مُوسى عليه السَّلامُ؛ لِيُناطَ به ذِكْرُ الكتابِ، وكَونُه مَبْعوثًا إلى بني إسرائيلَ كما ذُكِرَ في الآيةِ السَّابقةِ، وقرَنَ به الآياتِ والسُّلطانَ وكَونَه مَبْعوثًا إلى فِرعونَ وملَئِه .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث لم يُذْكَرْ هارونُ هنا ووقَع الإعراضُ عنه، بخِلافِ الآيةِ السَّابقةِ: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [المؤمنون: 45] ؛ لأنَّ رِسالتَه قدِ انتهَتْ؛ لاقتصارِهِ على تَبليغِ الدَّعوةِ لِفِرعونَ ومَلَئِه؛ إذ كانت مَقامَ مُحاجَّةٍ واستدلالٍ، فسأَلَ مُوسى ربَّهُ إشراكَ أخِيهِ هارونَ في تَبْليغِها؛ لأنَّه أفصَحُ منه لِسانًا في بَيانِ الحُجَّةِ والسُّلطانِ المُبينِ .
- قولُه: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لمَّا كان إيتاؤُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ التَّوراةَ لإرشادِ قَومِه إلى الحقِّ -كما هو شأْنُ الكُتبِ الإلهيَّةِ- جُعِلُوا كأنَّهم أُوتُوها؛ فقيلَ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وقيل: أُرِيدَ: آتَيْنا قَومَ مُوسى، فحُذِفَ المُضافُ وأُقيمَ المُضافُ إليه مُقامَه . وقيل: بلْ ضَميرُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ظاهِرُ العَودِ إلى غَيرِ مَذكورٍ في الكلامِ، بل إلى مَعلومٍ مِن المَقامِ، وهم القومُ المُخاطَبونَ بالتَّوراةِ، وهم بنو إسرائيلَ؛ فاتِّساقُ الضَّمائرِ ظاهِرٌ في المَقامِ دونَ حاجةٍ إلى تأْويلِ قولِه: آَتَيْنَا مُوسَى بمعنى: آتَيْنا قَومَ مُوسى .
7- قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
- قولُه: وَأُمَّهُ إدماجٌ لِتَسفيهِ اليَهودِ فيما رَمَوا به مَريمَ عليها السَّلامُ؛ فإنَّ ما جعَلَهُ اللهُ آيةً لها ولابْنِها جَعَلُوه مَطْعَنًا ومَغْمَزًا فيهما .
- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً أفرَدَ وقال: آَيَةً؛ لأنَّ حالَهُما بمَجموعِهما آيةٌ واحدةٌ؛ وهي وِلادتُها إيَّاهُ مِن غَيرِ فَحْلٍ. أو جَعَلْنا ابنَ مَريمَ آيةً بأنْ تكلَّمَ في المَهْدِ، وظَهَرَتْ منه مُعجِزاتٌ أُخَرُ، وَأُمَّهُ آَيَةً بأنْ ولَدَتْ مِن غَيرِ مَسيسٍ؛ فحُذِفَتِ الأُولى لِدَلالةِ الثَّانيةِ عليها .
وقيل: قال: آَيَةً إشارةً إلى ظُهورِ الخَوارقِ على أيدِيهما حتَّى كأنَّهما نفْسُ الآيةِ، فلا يُرَى منها شَيءٌ إلَّا وهو آيةٌ، ولو قال: (آيتينِ) لكان ربَّما ظُنَّ أنَّه يُرادُ حَقيقةُ هذا العددِ، ولعلَّ في ذلك إشارةً إلى أنَّه تكمَّلَتْ به آيةُ القُدرةِ على إيجادِ الإنسانِ بكلِّ اعتبارٍ: مِن غَيرِ ذكَرٍ ولا أُنْثى كآدَمَ عليه السَّلامُ، ومِن ذكَرٍ بلا أُنْثى كحوَّاءَ عليها السَّلامُ، ومِن أُنْثَى بلا ذكَرٍ كعِيسى عليه السَّلامُ، ومِن الزَّوجينِ كبَقِيَّةِ النَّاسِ .
- وأيضًا تَنكيرُ آَيَةً للتَّعظيمِ؛ لأنَّها آيةٌ تَحْتوي على آياتٍ، ولمَّا كان مَجموعُها دالًّا على صِدْقِ عِيسى في رِسالَتِه، جُعِلَ مَجموعُها آيةً عَظيمةً على صِدْقِه .
- والتَّعبيرُ عنهما بما ذُكِرَ من العُنوانينِ -وهما كونُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ابنَها، وكونُها أُمَّهَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بحَيثيَّةِ كَونِهما آيةً؛ فإنَّ نِسْبتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليها -معَ أنَّ النَّسبَ إلى الآباءِ- دالَّةٌ على أنْ لا أبَ له، أي: جَعَلْنا ابنَ مَريمَ وحْدَها مِن غَيرِ أنْ يَكونَ له أبٌ، وأُمَّه الَّتي ولدَتْهُ خاصَّةً مِن غَيرِ مُشارَكةِ الأبِ: آيةً. وتَقديمُه عليه الصِّلاةُ والسَّلامُ؛ لأصالتِه فيما ذُكِرَ مِن كَونِه آيةً، كما أنَّ تَقديمَ أُمِّه في قولِه تعالى: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] ؛ لِأَصالتِها فيما نُسِبَ إليها من الإحصانِ والنَّفخِ .
- قولُه: وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ فيه تَنويهٌ بهما؛ إذ جَعَلَهما اللهُ مَحَلَّ عِنايَتِه، ومَظهَرَ قُدرتِه ولُطْفِه .
- وقولُه: وَمَعِينٍ وَصْفٌ جَرى على مَوصوفٍ مَحذوفٍ؛ لِدَلالةِ الوَصْفِ عليه، أي: ماءٍ مَعينٍ . ووُصِفَ ماؤُها بذلك؛ للإيذانِ بكَونِه جامِعًا لفُنونِ المنافِعِ؛ مِن الشُّربِ، وسَقْيِ ما يُسْقَى من الحيوانِ والنَّباتِ بغَيرِ كُلْفةٍ، والتَّنزُّهِ بمَنظَرِهِ المُونِقِ، وطِيبِ المكانِ .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (51-56)
ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
غريب الكلمات:
أُمَّتُكُمْ: أي: مِلَّتُكم ودينُكم وشريعتُكم، والأصلُ أنَّه يُقالُ للقومِ يجتمعونَ على دينٍ واحدٍ: أُمَّةٌ، فتُقامُ الأُمَّةُ مقامَ الدِّينِ، وتُطلَقُ الأُمَّةُ أيضًا على البُرْهةِ مِن الزَّمنِ، والرَّجلِ المُقتدَى به، والأصلِ، والمرجِعِ، ويُقالُ لكلِّ ما كان أصلًا لوجودِ شيءٍ أو تربيتِه أو إصلاحِه أو مبدئِه: أمٌّ .
زُبُرًا: أي: كُتبًا مُختلِفةً، جمعُ زبورٍ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على قراءةٍ وكتابةٍ وما أشبهَ ذلك .
حِزْبٍ: أي: طائِفةٍ وفِرْقةٍ، والحزبُ: الجماعةُ مِن الناسِ، أو: جماعةٌ فيها غِلَظٌ، والطَّائفةُ مِن كلِّ شيءٍ حزبٌ، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تَجَمُّعِ الشَّيءِ .
غَمْرَتِهِمْ: أي: عَمايَتِهم وجَهْلِهم وضَلالِهم، وسُمِّيَتْ غَمْرةً؛ لأنَّها شَيءٌ يَستُرُ الحقَّ عن العينِ، وأصْلُ الغَمْرِ: إزالةُ أثَرِ الشَّيءِ، وكذلك تَغطيةٌ وسَتْرٌ .
مشكل الإعراب:
1- قولُه تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
قَولُه: أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً: أُمَّتُكُمْ خبَرُ لـ (إنَّ)، ونُصِبَ أُمَّةً على الحالِ من أُمَّتُكُمْ، أو نُصِبَ على البدَلِ مِن هَذِهِ، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبَرِ بين البَدَلِ والمُبدَلِ منه .
2- قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ
أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ: (ما) مَوصولةٌ بمعنى (الَّذي) ، وهي اسمُ (أنَّ)، ونُمِدُّهُمْ صِلتُها، وعائدُه الضَّميرُ في بِهِ. ومِنْ مَالٍ متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن الموصولِ (ما). ونُسَارِعُ خبرُ (أنَّ)، والعائدُ مِن هذه الجُملةِ إلى اسم (أنَّ) مَحذوفٌ، تَقديرُه: نُسارِعُ لهم به، أو فيه. والمصدرُ المُؤوَّلُ سَدَّ مَسدَّ مَفعولَي (يحسَبُ). وقيل غيرُ ذلك .
المعنى الإجمالي:
يخاطبُ اللهُ رسلَه آمرًا إيَّاهم بأن يأكُلوا مِنَ الرِّزقِ الحَلالِ الطَّيِّبِ، وأن يعْمَلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ ويُذكِّرُهم بأنَّه عَليمٌ بما يعمَلونَ، لا يَخْفَى عليه مِن أعمالِهم شَيءٌ. ويبيِّنُ لهم أنَّ دِينَهم جميعًا دِينٌ واحِدٌ، وهو الإسلامُ، وأنه هو رَبُّهم؛ فعليهم أن يتَّقوه، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه.
ويخبِرُ تعالى أنَّ الناسَ مِن أُمَمِ الرُّسُلِ تفرَّقتْ في الدِّينِ، وجعلوه كتبًا وضَعوها، دانَ كلُّ فريقٍ منهم بكتابٍ، وجعَل له دينًا، كُلُّ حِزْبٍ مُعْجَبٌ برأيِه، يَعتقِدُ أنَّه على الحَقِّ دون غيره! وأمَر اللهُ نبيَّه أن يَتركَهم في غَفلَتِهم وحَيرتِهم إلى أنْ يَنزِلَ العَذابُ بهم أو الموتُ.
ثم يقولُ تعالى: أيظُنُّ هؤلاء المُفَرِّقونَ دِينَهم أنَّ ما يبسُطُه لهم جلَّ وعلا مِن أموالٍ وأولادٍ في الدُّنيا هو تعجيلٌ لثوابِهم لِكَرامتِهم علَيْه؟! كلَّا! إنَّما يفعل ذلك فِتنةً لهم واستِدراجًا، ولكِنَّهم لا يَشعُرونَ بذلك.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
المناسبةُ لهذا الاستئنافِ هي قولُه: وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون: 50] ، ولِيَحصُلَ مِنْ ذلك الرَّدُّ على اعتقادِ الأقوامِ المُعلِّلينَ تكذيبَهم رُسُلَهم بعِلَّةِ أنَّهم يأكُلونَ الطَّعامَ، كما قالَ تعالَى في الآيةِ السَّابقةِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون: 33] ، وليُبْطِلَ بذلك ما ابْتَدَعه النَّصارَى مِنَ الرَّهبانِيَّةِ .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ عيسَى عليه السَّلامُ على مِنْهاجِ إخوانِه مِنَ الرُّسلِ في الأكْلِ والعِبادةِ، وجميعِ الأحوالِ؛ زاد في تَحقيقِ ذلك بَيانًا لِمَن ضَلَّ بأنِ اعتقَدَ فيه ما لا يَليقُ به، فقال مُخاطِبًا لِجَميعِ الرُّسلِ :
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا.
أي: يا أيُّها الرُّسُلُ، كُلُوا مِنَ الرِّزقِ الحَلالِ المُستلَذِّ النَّافِعِ، واعْمَلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ الخالِصةَ للهِ، المُوافِقةَ لِشَريعتِه .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمَرَ المُؤمِنينَ بما أمَرَ به المُرسَلينَ؛ فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أشعَثَ أغبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطعَمُه حَرامٌ، ومَشرَبُه حَرامٌ، ومَلبَسُه حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ؛ فأنَّى يُستَجابُ لذلك؟!)) .
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
أي: لا يَخْفى علَيَّ شَيءٌ مِن أعمالِكم، وسأُجازيكم عليها جَميعًا؛ فاجتَهِدوا في صالحِ الأعمالِ .
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52).
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.
أي: وقُلْنا للرُّسُلِ: إنَّ دِينَكم جَميعًا دِينٌ واحِدٌ، وهو الإسلامُ .
كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((أنا أَولى النَّاسِ بعِيسى ابنِ مَريمَ في الدُّنيا والآخِرةِ، والأنبياءُ إخوةٌ لِعَلَّاتٍ ؛ أُمَّهاتُهم شَتَّى، ودِينُهم واحِدٌ)) .
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
أي: وأنا رَبُّكم فاتَّقوني بفِعلِ أوامِري، واجتِنابِ نَواهيَّ، ولا تُشرِكوا بي شَيئًا .
كما قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] .
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53).
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا.
أي: فتَفرَّقَ النَّاسُ مِن أُمَمِ الرُّسُلِ في هذا الدِّينِ الواحِدِ الَّذي شرَعَه اللهُ لهم؛ وجعلوه كُتبًا وضَعوها، دانَ كلُّ فريقٍ منهم بكتابٍ غيرِ كُتبِ الفِرَقِ الأخرَى، وجعَل كلُّ فريقٍ منهم لنفْسِه دِينًا .
كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].
وقال سبحانَه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء: 93] .
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
أي: كلُّ فَريقٍ منهم مَسْرورونَ بما اختارُوه لأنفُسِهم، فَرِحونَ بباطِلِهم، يَعتَقِدونَ أنَّهم على الحَقِّ دونَ مَن سِواهم .
كما قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] .
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مَن ذَكَرَ مِنَ الأُمَمِ، ومآلَ أمْرِهم مِنَ الإهلاكِ حين كذَّبوا الرُّسلَ، كان ذلك مِثالًا لِقُريشٍ؛ فخاطَبَ رَسولَه في شأْنِهم بقولِه :
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54).
أي: فاتْرُكْ -يا مُحمَّدُ- هؤلاء المُشرِكينَ المُختَلِفينَ في دِينِهم، الَّذين هم بمَنزلةِ مَن تقدَّمَ؛ اترُكْهم في حَيْرَتِهم وضَلالتِهم وغَفلَتِهم الَّتي غَرِقوا فيها، إلى أنْ يأتيَهم العَذابُ أو الموتُ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] .
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان القومُ في نِعَمٍ عَظيمةٍ في الدُّنيا، جاز أنْ يظُنُّوا أنَّ تلك النِّعمَ كالثَّوابِ المُعجَّلِ لهم على أديانِهم؛ فبيَّنَ سُبحانَه أنَّ الأمْرَ بخِلافِ ذلك .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان المُوجِبَ لِغُرورِ الكافرينَ ظَنُّهم أنَّ حالَهم -في بَسْطِ الأرزاقِ مِن الأموالِ والأولادِ- حالُ الموعودِ لا المُتوعَّدِ، أنْكَر ذلك عليهم؛ تَنبيهًا لِمَن سبَقَتْ له السَّعادةُ، وكُتِبَت له الحُسْنى وزِيادةٌ، فقال :
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ.
أي: أيظُنُّ أولئك الَّذين فَرَّقوا دِينَهم أنَّ ما نَبسُطُه عليهم في الدُّنيا مِنَ الأموالِ والأبناءِ هو تَعجيلٌ لِثَوابِهم؛ لِمَعزَّتِهم وكَرامتِهم عندنا؟! كلَّا! ليس الأمرُ كما يَزعُمونَ، بلْ هم يُسارِعونَ في أسبابِ الشُّرورِ، ولكِنْ لا يَشعُرونَ أنِّي أُعْطِيهم ذلك فِتْنةً واستِدراجًا لهم .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
وقال سُبحانَه: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 55] .
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ [سبأ: 34 - 37] .
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا دَلَّ هذا على أنَّ الحلالَ عَونٌ على الطاعةِ والعمَلِ الصَّالحِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، بَعدَ قولِه: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، تَحذيرٌ مِن مُخالَفةِ ما أمَرَهُم به، وإذا كان ذلك تَحذيرًا للرُّسلِ مع عُلُوِّ شأْنِهم، فبأنْ يكونَ تَحذيرًا لِغَيرِهم أَوْلى؛ فهو تَحذيرٌ، والمُرادُ أتْباعُهم . وفيه أيضًا تَحريضٌ على الاستِزادةِ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ؛ لأنَّ ذلك يَتضمَّنُ الوعْدَ بالجَزاءِ عنها، وأنَّه لا يَضِيعُ منه شَيءٌ؛ فالخَبرُ مُستعمَلٌ في التَّحريضِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ وقَّفَهم تعالى على خطَأِ رأْيِهم في أنَّ نِعمةَ اللهِ عليهم بالمالِ ونَحْوِه إنَّما هي لِرِضاهُ عن حالِهم، وبيَّنَ تعالى أنَّ ذلك إنَّما هو إملاءٌ واستِدراجٌ إلى المعاصي، واستِجرارٌ إلى زِيادةِ الإثْمِ، وهم يَحْسَبونه مُسارَعةً لهم في الخَيراتِ، ومُعاجَلةً بالإحسانِ .
4- كلُّ لذَّةٍ أعقَبَتْ ألَمًا، أو منَعَتْ لذَّةً أكمَلَ منها؛ فليست بِلَذَّةٍ في الحقيقةِ، وإنْ غالَطَتِ النَّفْسُ في الالتِذاذِ بها؛ فأيُّ لَذَّةٍ لآكلِ طَعامٍ شَهِيٍّ مَسمومٍ يُقطِّعُ أمعاءَه عن قَريبٍ؟! وهذه هي لَذَّاتُ الكُفَّارِ والفُسَّاقِ بعُلُوِّهم في الأرضِ وفَسادِهم، وفرَحِهم فيها بغَيرِ الحقِّ ومرَحِهم، وذلك مِثْلُ لَذَّةِ الَّذين اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ أولياءَ يُحِبُّونَهم كحُبِّ اللهِ، فنَالوا بهم مَودَّةَ بَيْنِهم في الحياةِ الدُّنيا، ثمَّ استحالَتْ تلك اللَّذَّةُ أعظَمَ ألَمٍ وأمَرَّهُ، ومِن ذلك لَذَّةُ العقائِدِ الفاسدةِ والفرَحِ بها، ولَذَّةُ غَلبةِ أهْلِ الجَورِ والظُّلمِ والعُدوانِ، والزِّنا، والسَّرقةِ، وشُربِ المُسكِراتِ، وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى أنَّه لم يُمَكِّنْهم مِن ذلك لِخَيرٍ يُرِيدُه بهم، إنَّما هو استِدراجٌ مِنه؛ لِيُنِيلَهم به أعظَمَ الألَمِ؛ قال اللهُ تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] ، وقال تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 55] .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، هذا أمْرٌ منه تَعالى لِرُسلِه بأكْلِ الطَّيِّباتِ الَّتي هي الرِّزقُ الطَّيِّبُ الحلالُ، وشُكْرِ اللهِ بالعمَلِ الصَّالحِ الَّذي به يَصلُحُ القَلْبُ والبدَنُ، والدُّنيا والآخرةُ، ويُخبِرُهم أنَّه بما يَعْمَلون عليمٌ، فكلُّ عمَلٍ عَمِلُوه، وكلُّ سَعْيٍ اكتَسَبوه؛ فإنَّ اللهَ يَعلَمُه، وسيُجازِيهم عليه أتَمَّ الجزاءِ وأفضَلَهُ، فدَلَّ هذا على أنَّ الرُّسلَ كلَّهم مُتَّفِقون على إباحةِ الطَّيِّباتِ مِنَ المآكِلِ، وتَحريمِ الخبائثِ منها، وأنَّهم مُتَّفِقون على كلِّ عمَلٍ صالحٍ وإنْ تَنوَّعَتْ بَعضُ أجناسِ المأموراتِ، واختلَفَتْ بها الشَّرائعُ؛ فإنَّها كلَّها عمَلٌ صالِحٌ، ولكنْ تَتفاوَتُ بتَفاوُتِ الأزمنةِ .
2- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا فيه: بَيانُ كَرامةِ الرُّسلِ عندَ اللهِ، ونَزاهتِهم في أُمورِهم الجُسمانيَّةِ والرُّوحانيَّةِ؛ فالأكْلُ مِنَ الطَّيِّباتِ نَزاهةٌ جِسْميَّةٌ، والعمَلُ الصَّالِحُ نَزاهةٌ نَفسانيَّةٌ .
3- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، وقال: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة: 172] ؛ فأمَرَ بالأكْلِ والشُّكرِ، فمَن أكَلَ ولم يَشكُرْ كان مَذْمومًا، ومَن لم يأكُلْ ولم يَشكُرْ كان مَذْمومًا .
4- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً دَلالةٌ على أنَّ دِينَ الأنبياءِ واحدٌ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً إنْ قِيلَ: لمَّا كانت شَرائعُهم مُختلِفةً؛ فكيف يكونُ دِينُهم واحدًا؟
فالجَوابُ: أن المُرادَ مِنَ الدِّينِ ما لا يَختلِفون فيه مِن مَعرفةِ ذاتِ اللهِ تعالى وصِفاتِه، وأمَّا الشَّرائعُ فإنَّ الاختلافَ فيها لا يُسمَّى اختلافًا في الدِّينِ، فكما يُقالُ في الحائضِ والطَّاهِرِ مِنَ النِّساءِ: إنَّ دِينَهنَّ واحدٌ، وإنِ افترَقَ تَكليفُهما، فكذا هاهنا. ويدُلُّ على ذلك قولُه: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فكأنَّه نبَّهَ بذلك على أنَّ دِينَ الجَميعِ واحدٌ فيما يتَّصِلُ بمَعرفةِ اللهِ تعالى، واتِّقاءِ مَعاصيهِ، فلا مَدخَلَ للشَّرائعِ، وإنِ اختلَفَتْ في ذلك .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ؛ اكتِفاءً بالمَقولِ، وهو استِئنافٌ ابتدائيٌّ، أي: قُلْنا: يا أيُّها الرُّسلُ كُلُوا . والخِطابُ لجَميعِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، على معنَى: أنَّ كلًّا منهم خُوطِبَ في زَمانِه؛ فيَدخُلُ تحتَه عِيسى عليه السَّلامُ دُخولًا أوَّلِيًّا، وإنَّما أتى بصُورةِ الجَمْعِ؛ لِيَعتقِدَ السَّامِعُ أنَّ أمْرًا نُودِيَ له جَميعُ الرُّسلِ ووُصُّوا به: حَقيقٌ أنْ يُوحَّدَ به ويُعمَلَ عليه. أو يكونُ ابتداءَ كَلامٍ؛ ذُكِرَ تَنبيهًا على أنَّ تَهيئةَ أسبابِ التَّنعيمِ لم تكُنْ له خاصَّةً، وأنَّ إباحةَ الطَّيِّباتِ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ شَرعٌ قديمٌ، واحتجاجًا على الرَّهبانِيَّةِ في رَفْضِ الطَّيِّباتِ، أو حِكايةً لِمَا ذُكِرَ لِعِيسى عليه السَّلامُ ومَريمَ وإيوائِهما إلى الرَّبوةِ؛ لِيَقْتديَا بالرُّسلِ في تَناوُلِ ما رُزِقَا. وقيل: النِّداءُ له، ولَفْظُ الجَمْعِ للتَّعظيمِ. وقيل: هو خِطابٌ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَحْدَه على دأْبِ العرَبِ في مُخاطَبةِ الواحدِ بلَفْظِ الجَمعِ، أو لِقيامِه مقامَ الرُّسلِ، وفيه إبانةٌ لِفَضلِه وقِيامِه مقامَ الكُلِّ في حِيازةِ كَمالاتِهم .
- والأمْرُ في قولِه: كُلُوا للإباحةِ، وإنْ كان الأكْلُ أمْرًا جِبِليًّا للبشرِ، إلَّا أنَّ المُرادَ به هنا لَازِمُه، وهو إعلامُ المُكذِّبينَ بأنَّ الأكْلَ لا يُنافي الرِّسالةَ، وأنَّ الَّذي أرسَلَ الرُّسلَ أباح لهمُ الأكْلَ. وتَعليقُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بكسْبِ الإباحةِ المُستفادَةِ مِن الأمْرِ شَرْطٌ أنْ يكونَ المُباحُ مِنَ الطَّيِّباتِ، أي: أنْ يكونَ المأْكولُ طَيِّبًا. ويَزِيدُ في الرَّدِّ على المُكذِّبينَ بأنَّ الرُّسلَ إنَّما يَجْتنِبونَ الخبائِثَ، ولا يَجتنِبونَ ما أحَلَّ اللهُ لهم مِن الطَّيِّباتِ .
- قولُه: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا في تَقديمِ الأكْلِ مِن الطَّيِّباتِ على العمَلِ الصَّالحِ: دَلالةٌ على أنَّه لا يكونُ صالِحًا إلَّا مَسبوقًا بأكْلِ الحلالِ . وفي عَطْفِ العمَلِ الصَّالحِ على الأمْرِ بأكْلِ الطَّيِّباتِ: إيماءٌ إلى أنَّ هِمَّةَ الرُّسلِ إنَّما تَنصرِفُ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُه: وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بلَفظِ (عليم)، وفي سُورةِ (سبَأٍ) قال: وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سبأ: 11] بلَفظِ (بصير)؛ ووَجْهُه: أنَّه تقدَّمَ آيةَ (المُؤمِنون) إيتاءُ الكِتابِ، وجَعْلُ مَريمَ وابْنِها آيةً، والعِلْمُ بهما أنسَبُ مِن بَصَرِهما، وفي سُورةِ (سبَأٍ) تقدَّمَ قولُه: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10] ، والبصَرُ بإِلَانَةِ الحديدِ أنسَبُ مِن العِلْمِ بها . وقيل: خَصَّ كلَّ سُورةٍ بما وافَقَ فواصِلَ الآيِ .
2- قولُه تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
- قولُه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فيه تأْكيدُ الكَلامِ بحَرفِ (إنَّ)؛ للرَّدِّ على المُشركينَ مِن أُمَمِ الرُّسلِ، أو المُشرِكينَ المُخاطَبينَ بالقُرآنِ .
- وإنَّما أُشِيرَ إليها بـ هَذِهِ؛ للتَّنبيهِ على كَمالِ ظُهورِ أمْرِ الأُمَّةِ في الصِّحَّةِ والسَّدادِ، وانتظامِها بسَببِ ذلكَ في سِلْكِ الأُمورِ المُشاهَدةِ . وقيل: الإشارةُ بقولِه: هَذِهِ إلى أمْرٍ مُسْتَحضَرٍ في الذِّهنِ بَيَّنَه الخبرُ والحالُ؛ ولذلك أُنِّثَ اسمُ الإشارةِ، أي: هذه الشَّريعةُ الَّتي أَوْحَينا إليك هي شَريعتُك، ومعنى هذا الإخبارِ: أنَّك تَلتزِمُها ولا تَنقُصُ منها، ولا تُغيِّرُ منها شيئًا، ولِأجْلِ هذا المُرادِ جُعِلَ الخَبرُ ما حَقُّه أنْ يكونَ بَيانًا لاسمِ الإشارةِ؛ لأنَّه لم يُقْصَدْ به بَيانُ اسمِ الإشارةِ، بل قُصِدَ به الإخبارُ عن اسمِ الإشارةِ؛ لإفادةِ الاتِّحادِ بيْن مَدْلوليِ اسمِ الإشارةِ وخَبرِه؛ فيُفِيدُ أنَّه هو هو لا يُغيَّرُ عن حالِه؛ فالخَبرُ مُستعمَلٌ في مَعْنى التَّحريضِ والمُلازَمةِ .
- وفِعْلُ الأمْرِ فَاتَّقُونِ في حَقِّ الرُّسلِ للتَّهييجِ والإلهابِ، وفي حَقِّ الأُمَمِ للتَّحذيرِ والإيجابِ، والفاءُ لِتَرتيبِ الأمْرِ، أو وُجوبِ الامتثالِ به على ما قَبْلَه مِن اختِصاصِ الرُّبوبيَّةِ به تعالى واتِّحادِ الأُمَّةِ؛ فإنَّ كُلًّا منهما مُوجِبٌ للاتِّقاءِ حَتْمًا .
- وفي قولِه: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُه هنا: فَاتَّقُونِ، وفي (الأنبياءِ): فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] ؛ فيجوزُ أنَّ اللهَ أمَرَهم بالعِبادةِ وبالتَّقْوى، ولكنْ حَكَى في كلِّ سُورةٍ أمْرًا مِن الأمْرَينِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ الأمرانِ وقَعَا في خِطابٍ واحدٍ، فاقْتُصِرَ على بَعْضِه في سُورةِ (الأنبياءِ)، وذُكِرَ مُعظَمُه في سُورةِ (المُؤمِنينَ)، بحَسَبِ ما اقتضاهُ مَقامُ الحِكايةِ في كِلْتَا السُّورتينِ. ويحتمِلُ أنْ يكونَ كلُّ أمْرٍ مِن الأمْرينِ قد وقَعَ في خِطابٍ مُستقِلٍّ؛ تَماثَلَ بَعضُه، وزاد الآخَرُ عليه بحَسَبِ ما اقتضاهُ مَقامُ الخِطابِ مِن قَصْدِ إبلاغِه للأُمَمِ كما في سُورةِ (الأنبياءِ)، أو مِن قَصْدِ اختِصاصِ الرُّسلِ كما في سُورةِ (المُؤمِنينَ)، وعلى كلٍّ فوَجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ سُورةِ (الأنبياءِ) لم تُذْكَرْ فيها رِسالاتُ الرُّسلِ إلى أقْوامِهم بالتَّوحيدِ عدَا رِسالةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ثمَّ جاء ذِكْرُ غَيرِه مِن الرُّسلِ والأنبياءِ مع الثَّناءِ عليهم، وطالَ البُعْدُ بيْنَ ذلك وبيْنَ قِصَّةِ إبراهيمَ؛ فكان الأمْرُ بإفرادِ اللهِ تعالى بالعِبادةِ -الَّذي هو المعنى الَّذي اتَّحدَتْ فيه الأديانُ- أَوْلى هُنالِك؛ لأنَّ المَقصودَ مِن ذلك الأمْرِ أنْ يُبلَّغَ إلى أقوامِهم، فكان ذِكْرُ الأمْرِ بالعِبادةِ أَوْلى بالمَقامِ في تلك السُّورةِ؛ لأنَّه الَّذي حَظُّ الأُمَمِ منه أكثَرُ؛ إذِ الأنبياءُ والرُّسلُ لم يَكونوا بخِلافِ ذلك قطُّ، فلا يُقْصَدُ أمْرُ الأنبياءِ بذلك؛ إذ يَصِيرُ مِن تَحصيلِ الحاصلِ، إلَّا إذا أُرِيدَ به الأمْرُ بالدَّوامِ. وأمَّا آيةُ سُورةِ (المُؤمِنون) فقد جاءت بعْدَ ذِكْرِ ما أُرسِلَ به الرُّسلُ إلى أقوامِهم مِن التَّوحيدِ وإبطالِ الشِّركِ؛ فكان حَظُّ الرُّسلِ مِن ذلك أكثَرَ كما يَقْتضيهِ افتِتاحُ الخِطابِ بـ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ [المؤمنون: 51] ؛ فكان ذِكْرُ الأمْرِ بالتَّقوى هنا أنسَبَ بالمَقامِ؛ لأنَّ التَّقوى لا حَدَّ لها؛ فالرُّسلُ مأْمُورونَ بها، وبالازديادِ منها .
- وأيضًا قولُه: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أبلَغُ في التَّخويفِ والتَّحذيرِ من قولِه في (الأنبياءِ): وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] ؛ لأنَّ هذه جاءت عَقِيبَ إهْلاكِ طوائفَ كَثيرينَ مِن قَومِ نُوحٍ والأُمَمِ الَّذين مِن بَعْدِهم، وفي (الأنبياءِ) وإنْ تقدَّمَتْ أيضًا قِصَّةُ نُوحٍ وما قبْلَها: فإنَّه جاء بَعْدَها ما يدُلُّ على الإحسانِ واللُّطفِ التَّامِّ في قِصِّةِ أيُّوبَ ويُونسَ وزكريَّا ومَرْيمَ؛ فناسَبَ الأمْرُ بالعِبادةِ لمَن هذه صِفَتُه تعالى .
3- قوله تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
- قولُه: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا جِيءَ بفاءِ التَّعقيبِ هنا؛ لإفادةِ أنَّ الأُمَمَ لم يَتريَّثوا عَقِبَ تَبليغِ الرُّسل إيَّاهم وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52] أنْ تَقطَّعوا أمْرَهم بيْنهم، وذلك مُبالَغةٌ في عدَمِ قَبولِهم، وفي نِفارِهم عن تَوحيدِ اللهِ وعِبادتِه؛ فالكلامُ مَسوقٌ مَساقَ الذَّمِّ؛ ولذلك قد تُفِيدُ الفاءُ مع التَّعقيبِ معنَى التَّفريعِ، أي: فتفرَّعَ على ما أمَرْناهُم به مِن التَّوحيدِ أنَّهم أتَوْا بعَكْسِ المطلوبِ منهم؛ فيُفِيدُ الكلامُ زِيادةً على الذَّمِّ تَعجيبًا مِن حالِهم. وممَّا يَزِيدُ معنَى الذَّمِّ تَذييلُه بقولِه: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، أي: وهم ليسوا بحالِ مَن يَفرَحُ ، وجاء في سورةِ (الأنبياءِ) بالواوِ وَتَقَطَّعُوا [الأنبياء: 93] ؛ فاحتمَلَ معنى الفاءِ، واحتمَلَ تأخُّرَ تَقطُّعِهم عن الأمْرِ بالعِبادةِ، وفَرَحُ كلِّ حِزْبٍ بما لدَيْهِ دَليلٌ على نِعْمتِه في ضَلالِه، وأنَّه هو الَّذي يَنْبَغي أنْ يُعتقَدَ، وكأنَّه لا رِيبةَ عندَه في أنَّه الحقُّ !
- والتقطُّعُ: الانقطاعُ الشَّديدُ، وأصلُه مُطاوِعُ (قطَّع) -بالتَّشديدِ- الذي هو مُضاعَفُ (قطَع) -بالتخفيف. واستُعمِلَ فِعلًا مُتعديًا بمعنى قَطَّع بقَصْدِ إفادةِ الشِّدَّةِ في حُصولِ الفِعلِ؛ فالمعنى: قطَّعوا أمْرَهم بيْنهم قِطعًا كثيرةً، أي: تفرَّقوا على نِحَلٍ كَثيرةٍ، فجَعَل كُلُّ فريقٍ منهم لنَفْسِه دِينًا . وقيل: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ: فتفَرَّقُوا في أمرِهِم، على نَزْعِ الخافِضِ، ويجوز أن يكونَ أَمْرَهُمْ على هذا نصبًا على التمييزِ عندَ الكوفيينَ المجوِّزينَ تعريفَ التمييزِ .
- قولُه: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ تَذييلٌ لِمَا قَبْلَه؛ لأنَّ التَّقطُّعَ يَقْتَضي التَّحزُّبَ؛ فذُيِّلَ بأنَّ كلَّ فَريقٍ منهم فَرِحٌ بدِينِه، ففي الكلامِ صِفَةٌ مَحذوفةٌ لـ حِزْبٍ، أي: كلُّ حِزْبٍ منهم؛ بدَلالةِ المَقامِ، أي: إنَّهم فَرِحونَ بدِينِهم عن غَيرِ دَليلٍ ولا تَبصُّرٍ، بل لمجرَّدِ العُكوفِ على المعتادِ، وذلك يُومِئُ إليه لَدَيْهِمْ المُقْتَضي أنَّه مُتقرِّرٌ بيْنهم مِن قَبْلُ، أي: بالدِّينِ الَّذي هو لَدَيْهم، فهم لا يَرْضَون على مَن خالَفَهم ويُعادُونَه، وذلك يُفْضِي إلى التَّفريقِ والتَّخاذُلِ بين الأُمَّةِ الواحدةِ، وهو خِلافُ مُرادِ اللهِ؛ ولذلك ذُيِّلَ به قولُه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً .
4- قولُه تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ انتِقالٌ بالكَلامِ إلى خِطابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وضَميرُ الجَمْعِ فَذَرْهُمْ عائدٌ إلى مَعروفٍ مِن السِّياقِ، وهم مُشرِكو قُريشٍ . وفيه وَعيدٌ لهم بعَذابِ الدُّنيا والآخِرةِ، وتَسليةٌ لرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونَهْيٌ له عن الاستعجالِ بعَذابِهم، والجَزَعِ مِن تأْخيرِه .
- وفي قولِه: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ شبَّهَ جَهْلَهم بغَمرةِ الماءِ إذا وقَعَ فيها الشَّخصُ، فلا يَدْرِي كيف يَتخلَّصُ منها، والجامِعُ: الوُقوعُ في وَرطةِ الهَلاكِ. أو هو تَمثيلٌ؛ شَبَّهَ حالَ هؤلاء مع ما هُم عليه مِن مُحاولَةِ الباطلِ والانغماسِ فيه، بحالِ مَن يَدخُلُ في الماءِ الغامِرِ لِلَّعَبِ، والجامِعُ: تَضييعُ السَّعيِ بَعْدَ الكَدْحِ في العَملِ .
- والفاءُ في قولِه: فَذَرْهُم ... لِتَرتيبِ الأمْرِ بالتَّركِ على ما قبْلَه مِن كَونِهم فَرِحينَ بما لَدَيْهم؛ فإنَّ انْهِماكَهم فيما هُم فيه، وإصْرارَهم عليه: مِن مَخايلِ كَونِهم مَطبوعًا على قُلوبِهم، أي: اترُكْهُم على حالِهم .
- وإضافةُ الغَمرةِ إلى ضَميرِهم باعتبارِ مُلازَمَتِها إيَّاهم حتَّى قد عُرِفَتْ بهم .
- وفي تَنكيرِ وإبْهامِ حِينٍ ما لا يَخْفَى مِن التَّهويلِ .
- والكَلامُ في قولِه: حَتَّى حِينٍ ظاهِرُه المُتارَكةُ، والمَقصودُ منه: الإملاءُ لهم، وإنْذارُهم بما يَسْتقبِلُهم مِن سُوءِ العاقبةِ في وَقتٍ ما؛ ولذلك نُكِّرَ لَفظُ حِينٍ المَجعولُ غايةً لاستِدراجِهم، أي: زَمنٌ مُبْهَمٌ .
5- قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
- الاستِفهامُ في قولِه: أَيَحْسَبُونَ استِفهامٌ إنكاريٌّ وتَوبيخيٌّ على هذا الحُسبانِ .
- وقولُه: مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ فيه تَقديمُ المالِ على البنينَ؛ لعَراقتِه فيما نِيطَ به من الزِّينةِ والإمدادِ وغيرِ ذلك، وعُمومِه بالنِّسبةِ إلى الأفرادِ والأوقاتِ؛ فإنَّه زِينةٌ ومَمَدٌّ لكلِّ أحدٍ من الآباءِ والبنينَ في كلِّ وقتٍ وحينٍ، وأمَّا البَنونَ فزينتُهم وإمدادُهم إنَّما يكونُ بالنِّسبةِ إلى مَن بلَغَ مَبْلغَ الأُبوَّةِ، ولأنَّ المالَ مَناطٌ لِبَقاءِ النفْسِ، والبنينَ لبقاءِ النَّوعِ، ولأنَّ الحاجةَ إليه أمَسُّ مِن الحاجةِ إليهم، ولأنَّه أقدَمُ منهم في الوُجودِ، ولأنَّه زِينةٌ بدُونِهم مِن غيرِ عكسٍ؛ فإنَّ مَن له بَنونَ بلا مالٍ، فهو في ضِيقِ حالٍ ونَكالٍ .
6- قوله تعالى: نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ
- قولُه: بَل لَا يَشْعُرُونَ (بَلْ) استِدْراكٌ لقولِه: أَيَحْسَبُونَ، يعني: بل هم أشباهُ البهائمِ، لا فِطْنةَ بهم ولا شُعورَ حتَّى يتأَمَّلوا ويَتفكَّروا في ذلك: أهوَ استِدْراجٌ، أم مُسارَعةٌ في
الخيرِ؟ وفيه تَهديدٌ ووَعيدٌ
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (57-62)
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
غريب الكلمات:
مُشْفِقُونَ: أي: خائِفونَ، حَذِرونَ، والإشفاقُ: عِنايةٌ مختلِطةٌ بخوفٍ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ .
وَجِلَةٌ: أي: خائفةٌ، والوَجَلُ: استِشعارُ الخَوفِ .
المعنى الإجمالي:
يُبَيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ الَّذين همْ -لِخَشيَتِهم مِن رَبِّهم- حَذِرونَ خائِفونَ مِن عِقابِه، يُداوِمونَ على طاعتِه، والذين يُؤمِنونَ بآياتِه، والَّذين يُخْلِصونَ لِرَبِّهم في عِباداتِهم كلِّها؛ فلا يُشرِكونَ به شَيئًا، والذين يُعطونُ ما يُعطونَ مِنَ الزَّكواتِ والصَّدقاتِ وغيرِ ذلك، وقلوبُهم خائفةٌ مِن رُجوعِهم إلى ربِّهم، فيَخافونَ ألَّا يَتقَبَّلَ الله منهم أعمالَهم: أولئك يُبادِرونَ إلى فِعْلِ الخَيراتِ؛ تقرُّبًا إلى ربِّهم، وهم إلى هذه الخَيراتِ سابِقونَ.
ويخبرُ تعالى أنَّه لا يكَلِّفَ أحدًا إلَّا ما يُطِيقُه، وأنَّه لديه كتابٌ فيه جميعُ أعمالِ العبادِ، قد سجَّلَتها الملائكةُ الكِرامُ، فهو يُبيِّنُ بالصدقِ المطابقِ للواقعِ ما عمِلوه في الدنيا مِن خيرٍ أو شرٍّ، فيُجازيهم سبحانَه بأعمالِهم وهم لا يُظلمون.
تفسير الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَمَّ اللهُ تعالى مَن تقدَّمَ ذِكْرُه بقولِه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] ، ثمَّ قال: بَل لَا يَشْعُرُونَ؛ بيَّنَ بَعدَه صِفاتِ مَن يُسارِعُ في الخَيراتِ، ويَشعُرُ بذلك .
وأيضًا لَمَّا فرَغَ اللهُ تعالى مِنْ ذِكْرِ الكَفرةِ وتوَعَّدَهم؛ عقَّبَ ذلك بذِكْرِ المُؤمِنينَ، ووَعَدَهم وذكَرَهم بأبلَغِ صِفاتِهم .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الَّذين جَمَعوا بيْنَ الإساءةِ والأمْنِ، الَّذين يَزْعُمون أنَّ عطاءَ اللهِ إيَّاهم في الدُّنيا دَليلٌ على خَيرِهم وفَضْلِهم؛ ذكَرَ الَّذين جَمَعوا بيْن الإحسانِ والخوفِ، فقال :
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57).
أي: إنَّ الَّذينَ همْ -لِخَشيَتِهم مِن رَبِّهم- حَذِرونَ خائِفونَ مِن عِقابِه، يُداوِمونَ على طاعتِه، وطَلَبِ مَرضاتِه .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج: 27- 28] .
وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58).
أي: والَّذين همْ بآياتِ القُرآنِ وغَيرِها مِنَ الدَّلائِلِ والبَراهينِ والحُجَجِ يُؤمِنونَ .
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59).
أي: والَّذين يُخلِصونَ لِرَبِّهم في عِباداتِهم كلِّها؛ فلا يُشرِكونَ به شَيئًا .
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أثبَتَ اللهُ تعالى لهمُ الإيمانَ الخالِصَ، نَفَى عنهم العُجْبَ بقولِه :
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60).
أي: والَّذين يُعطُونَ ما أعْطَوا مِن زَكَواتٍ وصَدَقاتٍ وغيرِ ذلك ، والحالُ أنَّ قُلوبَهم خائِفةٌ مِن رُجوعِهم إلى ربِّهم، وبَعْثِهم يومَ القِيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ، فيَخافونَ ألَّا يُتقبَّلَ منهم .
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61).
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.
أي: أولئك يُبادِرونَ ويُسابِقونَ في عمَلِ الطَّاعاتِ؛ تَقرُّبًا إلى اللهِ تعالى، ونَيلِ الدَّرَجاتِ .
وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ.
أي: وهم إلى الخَيراتِ سابِقونَ .
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه كَيفيَّةَ أعمالِ المُؤمِنينَ المُخلِصينَ؛ ذكَرَ حُكمينِ مِن أحكامِ أعْمالِ العِبادِ؛ الأوَّلُ: قولُه: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، والثَّاني: قولُه: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ .
وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ مُسارَعةَ المُؤمِنينَ إلى الخَيراتِ، وسَبْقَهم إليها، رُبَّما وَهِمَ واهِمٌ أنَّ المطلوبَ منهم ومِن غَيرِهم أمْرٌ غيرُ مَقْدورٍ أو مُتَعَسِّرٌ؛ أخْبَر تعالى أنَّه لا يُكلِّفُ نفْسًا إلَّا وُسْعَها .
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
أي: ولا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا ما تُطِيقُ حَمْلَه والقِيامَ به، مِن عِبادةِ اللهِ والعَمَلِ بشَرعِه .
كما قال سُبحانَه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].
وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كانتِ الأعمالُ إذا تكاثَرَتْ وامتَدَّ زمَنُها، تعسَّرَ أو تعذَّرَ حَصْرُها إلَّا بالكتابةِ؛ عامَلَ العِبادَ سُبحانَه بما يَعرِفونَ مع غِناهُ عن ذلك ، فقال:
وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أي: وعِندَنا كِتابٌ كتَبَتِ الملائِكةُ فيه جَميعَ أعْمالِ العِبادِ؛ فهو يُبَيِّنُ بالصِّدقِ الثَّابِتِ المُطابِقِ للواقِعِ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ، فنُجازِيهم بأعمالِهم، ولا نَظلِمُهم بعُقوبتِهم بما لم يَعمَلوا، أو بالزِّيادةِ في سَيِّئاتِهم، أو بالنَّقصِ مِن حَسَناتِهم .
كما قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28- 29] .
الفوائد التربوية:
1- اللهُ سُبحانَه كما جعَلَ الرَّجاءَ لأهْلِ الأعمالِ الصَّالحةِ، فكذلك جعَلَ الخَوفَ لأهْلِ الأعمالِ الصَّالحةِ؛ فعُلِمَ أنَّ الرَّجاءَ والخوفَ النَّافِعَ: ما اقترَنَ به العمَلُ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ .
2- قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، فإذا تُلِيَت عليهم آياتُه زادَتْهم إيمانًا، ويَتفكَّرون أيضًا في الآياتِ القُرآنيَّةِ ويَتدبَّرونَها؛ فيَبِينُ لهم مِن مَعاني القُرآنِ وجَلالَتِه واتِّفاقِه، وعدَمِ اختلافِه وتَناقُضِه، وما يَدْعُو إليه مِن مَعرفةِ اللهِ وخَوفِه ورجائِه، وأحوالِ الجَزاءِ؛ فيَحْدُثُ لهم بذلك مِن تَفاصيلِ الإيمانِ ما لا يُعبِّرُ عنه اللِّسانُ، ويَتفكَّرونَ أيضًا في الآياتِ الأُفقيَّةِ، كما في قولِه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ... [آل عمران: 190] ، إلى آخِرِ الآياتِ .
3- قَولُ اللهِ تَعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي: مُشفِقةٌ قُلوبُهم؛ كلُّ ذلك مِن خَشيةِ ربِّهم؛ خَوفًا أنْ يضَعَ عليهم عَدْلَه، فلا يَبْقى لهم حَسنةٌ، وسُوءَ ظَنٍّ بأنفُسِهم ألَّا يَكُونوا قد قامُوا بحَقِّ اللهِ تَعالى، وخَوفًا على إيمانِهم مِنَ الزَّوالِ، ومَعرِفةً منهم برَبِّهم، وما يَستحِقُّه مِن الإجلالِ والإكرامِ، وخَوفُهم وإشْفاقُهم يُوجِبُ لهم الكفَّ عمَّا يُوجِبُ الأمْرَ المَخُوفَ مِنَ الذُّنوبِ، والتَّقصيرِ في الواجباتِ .
4- كان الحَسنُ يَقولُ: (إنَّ المؤْمِنَ جَمَع إحسانًا وشفَقةً، وإنَّ المُنافِقَ جَمَع إساءةً وأمْنًا)، ثمَّ تَلَا الحَسنُ: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] إلى: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] . وقال المُنافِقُ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] ) .
5- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ أي: في مَيدانِ التَّسارُعِ في أفْعالِ الخَيرِ، هَمُّهم ما يُقرِّبُهم إلى اللهِ، وإرادَتُهم مَصروفةٌ فيما يُنْجِي مِن عَذابِه؛ فكلُّ خَيرٍ سَمِعُوا به، أو سنَحَتْ لهم الفُرصةُ إليه؛ انْتَهَزوه وبادَرُوه، قد نظَروا إلى أولياءِ اللهِ وأصْفيائِه، أمامَهم، ويَمْنَةً ويَسْرةً، يُسارِعون في كلِّ خَيرٍ، ويُنافِسون في الزُّلفى عندَ ربِّهم، فنافَسُوهم .
6- قولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ فيه الثَّناءُ على المُبادرينَ إلى امتثالِ أوامِرِ رَبِّهم ، وهذا دَليلٌ على أنَّ المُبادَرةَ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ؛ مِن صلاةٍ في أوَّلِ الوقتِ، وغَيرِ ذلكَ مِنَ العِباداتِ، هو الأفضلُ، ومدْحُ الباري أَدَلُّ دَليلٍ على صِفَةِ الفَضلِ في المَمدوحِ على غَيرِه، واللهُ أعلَمُ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ والإشفاقُ: الخوفُ، وقيلَ: الإشفاقُ هو الخشيةُ، فظاهِرُ ما في الآيةِ التَّكرارُ.
وأُجيبَ عن ذلك مِن عدَّةِ وجوهٍ:
منها: حملُ الخشيةِ على العذابِ، أي: مِن عذابِ ربِّهم خائِفونَ.
ومنها: حَملُ الإشفاقِ على ما هو أثَرٌ له، وهو الدَّوامُ على الطَّاعةِ، أي: الَّذينَ هم مِن خشيةِ ربِّهم دائِمونَ على طاعَتِه.
ومنها: أنَّ الإشفاقَ كمالُ الخوفِ؛ فلا تَكرارَ. وقيلَ: هو تَكرارٌ للتَّأكيدِ .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ إنَّما عُبِّرَ بـ مَا آَتَوْا دُونَ (الصَّدقاتِ) أو (الأموالِ)؛ لِيَعُمَّ كلَّ أصنافِ العطاءِ المطلوبِ شَرعًا، ولِيَعُمَّ القليلَ والكثيرَ؛ فلعَلَّ بَعضَ المُؤمِنينَ ليس له مِن المالِ ما تَجِبُ فيه الزَّكاةُ وهو يُعْطي ممَّا يَكسِبُ .
3- في قولِه تعالى: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِشارةٌ للمُشفقينَ مِن خَشيةِ ربِّهم، والوَجِلةِ قُلوبُهم -مع صالِحِ أعمالِهم- مِنَ الرُّجوعِ إلى ربِّهم، وتَطْييبٌ لأنفُسِهم بألَّا يَرْهَبوا ظُلْمًا، وأنْ يَطْمَئِنُّوا إلى أنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُه لا يُطالِبُهم فَوقَ وُسْعِهم، وأنَّ وُسْعَهم في صالِحِ أعمالِهم قد أحصاهُ كِتابٌ يَنطِقُ لهم .
4- قال تعالى: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ استدلَّ بعضُهم بهذه الآيةِ على أنَّ مَن كتَب إلى إنسانٍ كتابًا فقد كلَّمه .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ مَن له المُسارَعةُ في الخَيراتِ، بَعْدَ إقْناطِ الكُفَّارِ عنها، وإبْطالِ حُسبانِهم الكاذبِ .
- وافتِتاحُ الجُملةِ بـ (إنَّ) للاهتمامِ بالخبَرِ .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ للتَّعليلِ، والمعنى: أنَّهم لِخَشيةِ ربِّهم يَخافونَ عِقابَه؛ فحُذِفَ مُتعلِّقُ مُشْفِقُونَ؛ لدَلالةِ السِّياقِ عليه . وقِيلَ: (مِن) لِبَيانِ جِنْسِ الإشفاقِ .
2- قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ
- قولُه: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ أي: شِرْكًا جَلِيًّا ولا خَفِيًّا -على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-؛ ولذلك أُخِّرَ عن الإيمانِ بالآياتِ. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في المواقِعِ الثَّلاثةِ؛ للإشعارِ بعِلِّيَّتِها للإشفاقِ والإيمانِ وعَدَمِ الإشراكِ .
3- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
- قولُه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا صِيغةُ المُضارِعِ في الصِّلةِ الأُولى؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ، وصِيغَةُ الماضي في الصِّلةِ الثَّانيةِ؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ .
- والآياتُ مِن قولِه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى قولِه: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ فيها مُقابَلةٌ حَسَنةٌ؛ فهذه الآياتُ مُقابِلُ ما تَضمَّنَتْه الغَمرةُ في قولِه: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [المؤمنون: 54] ؛ مِن الإعراضِ عن عِبادةِ اللهِ وعنِ التَّصديقِ بآياتِهِ، ومِن إشراكِهم آلِهةً مع اللهِ، ومِن شُحِّهم عن الضُّعفاءِ، وإنْفاقِ مالِهم في اللَّذَّاتِ، ومِن تَكذيبِهم بالبَعثِ؛ كلُّ ذلك ممَّا شَمِلَتْه الغَمرةُ، فجِيءَ في مُقابِلِها بذِكْرِ أحوالِ المُؤمِنينَ ثناءً عليهم؛ ألَا تَرى إلى قولِه بَعدَ هذا: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [المؤمنون: 63] ؛ فكانتْ هذه الجُملةُ كالتَّفصيلِ لإجمالِ الغَمرةِ مع إفادةِ المُقابَلةِ بأحوالِ المُؤمِنينَ. واختِيرَ أنْ يكونَ التَّفصيلُ بذِكْرِ المُقابِلِ لِحُسنِ تلك الصِّفاتِ وقُبْحِ أضْدادِها؛ تَنزيهًا للذِّكرِ عن تَعدادِ رَذائلِهم، فحصَلَ بهذا إيجازٌ بَديعٌ، وطِباقٌ مِن ألْطَفِ البديعِ، وصَونٌ للفَصاحةِ مِن كَراهةِ الوَصفِ الشَّنيعِ .
- والإتيانُ بالموصولاتِ (إِنَّ الَّذِينَ - وَالَّذِينَ هُمْ - وَالَّذِينَ هُمْ - وَالَّذِينَ يُؤتُونَ) في الآياتِ السَّابقةِ؛ للإشارةِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو قولُه: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وتَكريرُ أسماءِ المَوصولاتِ؛ للاهتمامِ بكلِّ صِلَةٍ مِن صِلاتِها، فلا تُذكَرُ تَبعًا بالعطفِ . وإيذانًا باستقلالِ كلِّ واحدةٍ مِن تلك الصِّفاتِ بفَضيلةٍ باهرةٍ على حِيالِها، وتَنزيلًا لاستِقلالِها مَنزِلةَ استِقلالِ المَوصوفِ بها .
- وتَقديمُ المَجروراتِ الثَّلاثةِ -مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ، بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ، بِرَبِّهِمْ- على عوامِلِها؛ لرِعايةِ الفواصلِ، مع الاهتمامِ بمَضمونِها .
- وجاء تَرتيبُ هذه الصِّفاتِ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ في نِهايةِ الحُسنِ؛ لأنَّ الأُولى دلَّتْ على حُصولِ الخَوفِ الشَّديدِ المُوجِبِ للاحترازِ، والثَّانيةَ على تَحصيلِ الإيمانِ باللهِ، والثَّالثةَ على تَرْكِ الرِّياءِ في الطَّاعةِ -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، والرَّابعةَ على أنَّ المُستجمِعَ لهذه الصِّفاتِ الثَّلاثةِ يأْتي بالطَّاعاتِ مع خَوفٍ مِن التَّقصيرِ، وهو نِهايةُ مَقاماتِ الصِّدِّيقينَ .
4- قوله تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
- قولُه: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ فيه افتِتاحُ الخَبرِ باسمِ الإشارةِ؛ لزِيادةِ تَمييزِهم للسَّامعينَ؛ لأنَّ مِثْلَهم أحْرِياءُ بأنْ يُعْرَفُوا ، وإفادةِ أنَّ مَن قَبْلَه جَديرٌ بما بَعدَه؛ لاكْتِسابِه تلك الفضائلَ . وأيضًا التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشعارِ ببُعْدِ رُتْبَتِهم في الفَضلِ .
- وقولُه: يُسَارِعُونَ أبلَغُ مِن (يُسرِعون)، وَجِهَةُ المُبالَغةِ: أنَّ المُفاعَلةَ تكونُ مِن اثنينِ، فتَقْتَضي حَثَّ النَّفْسِ على السَّبقِ؛ لأنَّ مَن عارضَكَ في شَيءٍ تَشْتَهي أنْ تَغلِبَه فيه .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ أثبَتَ لهم ما نُفِيَ عن أضْدادِهم، غيرَ أنَّه غيَّرَ الأُسلوبَ حيثُ لم يقُلْ: (أولئكَ نُسارِعُ لهم في الخَيراتِ)، بلْ أسنَدَ المُسارَعةَ إليهم؛ إيماءً إلى كَمالِ استِحقاقِهم لِنَيلِ الخَيراتِ بمَحاسِنِ أعمالِهِم. وإيثارُ كَلِمةِ (في) على كَلمةِ (إلى)؛ للإيذانِ بأنَّهم مُتقلِّبونَ في فُنونِ الخَيراتِ، لا أنَّهم خارِجُون عنها، مُتوجِّهون إليها بطَريقِ المُسارَعةِ في قولِه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] الآيةَ .
- وجُملةُ: وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ تأْكيدٌ للَّتي قبْلَها، مُفيدةٌ تَجدُّدَ الفِعْلِ بقولِه: يُسَارِعُونَ، وثُبوتَه بقولِه: سَابِقُونَ ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- والسَّبقُ في قولِه: وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ تَمثيلٌ للتَّنافُسِ والتَّفاوُتِ في الإكثارِ مِن الخَيراتِ -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، وتَقديمُ المَجرورِ لَهَا؛ للاهتِمامِ، ولرِعايةِ الفاصِلةِ .
5- قولُه تعالى: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ تَذييلٌ لِمَا تقدَّمَ مِن أحوالِ الَّذين مِن خَشيةِ ربِّهم مُشفِقونَ؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ ما اقْتَضى مُخالَفةَ المُشرِكينَ لِمَا أُمِرُوا به مِن تَوحيدِ الدِّينِ، وذكَرَ بَعدَه ما دَلَّ على تَقْوى المُؤمِنينَ بالخَشيةِ وصِحَّةِ الإيمانِ، والبَذلِ، ومُسارعَتِهم في الخيراتِ: ذَيَّلَ ذلك بأنَّ اللهَ ما طلَبَ مِن الَّذين تَقطَّعوا أمْرَهم إلَّا تكليفًا لا يَشُقُّ عليهم، وبأنَّ اللهَ عذَرَ مِن المُؤمِنينَ مَن لم يَبلُغوا مَبلَغَ مَن يَفوتُهم في الأعمالِ، عُذْرًا يَقْتضي اعتبارَ أجْرِهم على ما فاتَهم إذا بذَلُوا غايةَ وُسْعِهم؛ فقولُه: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا خبَرٌ مُرادٌ منه لازِمُه، وهو تَسجيلُ التَّقصيرِ على الَّذين تقطَّعُوا أمْرَهم بَيْنهم، وقَطْعُ مَعذِرَتِهم، وتَيسيرُ الاعتذارِ على الَّذين هم مِن خَشيةِ ربِّهم مُشفِقونَ، كقولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 185] ، مع ما في ذلك مِن جَبرِ الخواطرِ المُنكسِرةِ مِن أهْلِ الإيمانِ الَّذين لم يَلْحَقوا غيرَهم لِعَجزٍ أو خَصاصةٍ، ولمُراعاةِ هذا المعنى عُطِفَ قولُه: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، وهو معنَى إحاطةِ العِلْمِ بأحوالِهم ونيَّاتِهم؛ فالكِتابُ هنا هو الأمْرُ الَّذي فيه تَسجيلُ الأعمالِ مِن حَسناتٍ وسيِّئاتٍ، وإطلاقُ الكتابِ عليه لإحاطَتِه. وفي قولِه: (لَدَيْنَا) دَلالةٌ على أنَّ ذلك مَحفوظٌ، لا يَستطيعُ أحَدٌ تَغييرَه بزِيادةٍ ولا نُقصانٍ . وقيل: على أنَّ معنى الآيةِ: هذا الَّذي وُصِفَ به المُؤمِنون غيرُ خارِجٍ مِن حَدِّ الوُسعِ والطَّاقةِ، وكذلك كلُّ ما كلَّفَه عِبادَه وما عمِلُوه مِن الأعمالِ، فغَيرُ ضائعٍ عندَه؛ فالجُملةُ تَذييلٌ للآياتِ السَّابقةِ، وتأْكيدٌ لمَضمونِها. وعلى أنَّ معنى الآيةِ: إنَّ اللهَ لا يُكلِّفُ إلَّا الوُسْعَ، فإنْ لم يَبلُغِ المُكلَّفُ أنْ يكونَ على صِفَةِ هؤلاء السَّابقينَ بَعدَ أنْ يَستفرِغَ وُسْعَه ويَبذُلَ طاقتَهُ: فلا عليه، ولَدَيْنا كِتابٌ فيه عمَلُ السَّابقِ والمُقتصِدِ؛ فهو استِطرادٌ وبَيانٌ لحُكمِ غيرِ المذكورينَ مِن المُقتصدينَ .
- وقيل: إنَّ جُملةَ: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا مُستأْنفةٌ؛ سِيقَتْ للتَّحريضِ على ما وُصِفَ به السَّابِقون مِن فِعْلِ الطَّاعاتِ المُؤدِّي إلى نَيلِ الخَيراتِ، ببَيانِ سُهولَتِه، وكَونِه غيرَ خارِجٍ عن حَدِّ الوُسعِ والطَّاقةِ .
- قولُه: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَيانٌ لفَضلِه تعالى وعَدلِه في الجزاءِ، بَعدَ بَيانِ لُطفِه في التَّكليفِ. وقيل: تَقريرٌ لِمَا قَبلَه مِن التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمالِ، أي: لا يُظْلَمون بتَكليفِ ما ليس في وُسْعِهم، ولا بَعدمِ كَتْبِ بَعضِ أعمالِهم . وقيل: يَجوزُ أنْ يكونَ مَسوقًا لمُؤاخَذةِ المُفرِّطينَ والمُعرِضينَ، فيَكونَ الضَّميرُ عائدًا إلى ما عاد إليه ضَميرُ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ [المؤمنون: 53] وأشباهُهُ مِن الضَّمائرِ، والاعتمادُ على قَرينةِ السِّياقِ، وقولُه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [المؤمنون: 63] وما بَعدَهُ مِن الضَّمائرِ، والظُّلمُ على هذا الوَجهِ مَحمولٌ على ظاهِرِه، وهو حِرمانُ الحقِّ والاعتداءُ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ عائدًا إلى عُمومِ الأنفُسِ في قولِه: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؛ فيَكونَ قولُه: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مِن بَقِيَّةِ التَّذييلِ، والظُّلمُ على هذا الوَجهِ مُستعمَلٌ في النَّقصِ مِن الحقِّ؛ فيكونُ وَعيدًا لفَريقٍ، ووَعدًا لفَريقٍ. وهذا ألْيقُ الوَجهينِ بالإعجازِ .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (63-67)
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
غريب الكلمات:
مُتْرَفِيهِمْ: المُتْرفونَ: الأغنياءُ والرُّؤساءُ، أو المُنَعَّمُونَ في الدُّنْيا، والمُتقلِّبون فِي لِينِ العَيْشِ، الذين قد أبطَرَتْهم النِّعمةُ وسَعَةُ العَيشِ، والتُّرْفَةُ: التوسُّعُ في النِّعمةِ، وأصْلُ (ترف): التَّنعُّمُ .
يَجْأَرُونَ: أي: يَضِجُّون (يَصيحونَ)، ويَستَغيثونَ باللهِ، ويَرْفعونَ أصْواتَهم بالدُّعاءِ، وجأَر: إذا أفرَطَ في الدُّعاءِ والتَّضرُّعِ، والجؤَارُ هو الصَّوتُ .
تَنْكِصُونَ: أي: تَرْجِعون عنِ الإيمانِ، وتَرْجِعون القَهْقَرَى، أو تُعرِضون مُدْبرينَ، أو تَستأْخِرونَ، والنُّكوصُ: الإِحْجامُ عنِ الشَّيءِ، وعادةً ما يكونُ عن الخيرِ .
سَامِرًا: أي: سُمَّارًا، وهم الجماعةُ يتحدَّثونَ باللَّيلِ، والسَّمرُ: الحديثُ باللَّيْلِ، مأخوذٌ مِنَ السَّمَرِ، وهو ظِلُّ القمرِ، ومنه سُمْرَةُ اللَّونِ، وأصْلُ (سمر): يدُلُّ على خِلافِ البَياضِ في اللَّونِ .
تَهْجُرُونَ: أي: تُعرِضونَ؛ مِنَ الهَجْرِ، وهو التَّرْكُ والإعراضُ، وأصلُه: يدُلُّ على قَطيعةٍ وقَطْعٍ، أو تَهْذُونَ؛ مِنَ الهَجْرِ، وهو الهَذَيانُ .
مشكل الإعراب:
قَولُه تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
سَامِرًا مَنصوبٌ على الحالِ؛ إمَّا مِنْ فاعلِ تَنْكِصُونَ، وإمَّا مِنَ الضَّميرِ في مُسْتَكْبِرِينَ، والسَّامِرُ يقَعُ على ما فوقَ الواحِدِ بلَفظِ الإِفرادِ، تقولُ: قَومٌ سامِرٌ. وجُملةُ: تَهْجُرُونَ في مَحَلِّ نَصبٍ، حالٌ مِن فاعلِ تَنْكِصُونَ، أو مِنَ الضَّميرِ في سَامِرًا؛ لأنَّه بمعنى الجَماعةِ؛ فهو اسمٌ لجَمعِ السَّامرينَ، أي: المُتحَدِّثينَ في سَمَرِ اللَّيلِ، وهو ظُلمَتُه؛ فالسَّامِرُ كالحاجِّ والحاضِرِ والجامِلِ، بمعنى: الحُجَّاجِ والحاضرينَ وجَماعةِ الجِمالِ .
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ اللهُ تعالى عن الكافِرينَ أنَّ قُلوبَهم في جَهالةٍ وغَفلةٍ عنِ القُرآنِ الكريمِ، وأنَّ لهم أعمالًا سيِّئةً كثيرةً دونَ أعمالِ المُؤمِنينَ الصَّالحةِ التي ذكرها اللهُ هم مُستَمِرُّونَ عليها، يُمهِلُهم اللهُ سبحانَه حتَّى يَعمَلوها قبْلَ مَوتِهم؛ فيَحِقَّ عليهمُ العَذابُ.
حتَّى إذا عاقَبَ اللهُ هؤلاء المُترَفينَ -الَّذين أبطَرَتْهمُ النِّعمةُ- بالعذابِ الَّذي يُذِلُّهم، إذا هم يَصْرُخونَ ويَستَغيثونَ، فيُقالُ لهم: لا تَصرُخوا وتَستَغيثوا -أيُّها الكافِرونَ-؛ فلا فائِدةَ مِن هذا الصُّراخِ، ولنْ يُخلِّصَكم مِنَّا أحَدٌ؛ قد كانتْ الآياتُ تُتلَى عليكم، فكُنتُم تُعرِضونَ عنها، حالَ كونِكم مستكبرينَ بسببِ البيتِ الحرامِ، -تقولونَ: لا يَظهَرُ علينا أحدٌ؛ لأنَّا أهلُ الحَرمِ-، متحدِّثينَ ليلًا تَهْذونَ في شأنِ القرآنِ، وتقولونَ فيه الباطلَ.
تفسير الآيات:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
هذا رجوعٌ لأحوالِ الكفارِ المحكيَّةِ فيما سبَق بقولِه تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ ...، والجُمَلُ التي بيْنَهما -وهي قولُه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ إلى قولِه: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ- اعتراضٌ في خلالِ الكلامِ المتعلِّقِ بالكفَّارِ .
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا.
أي: بلْ قُلوبُ المُشرِكينَ في عَمايةٍ وغَفلةٍ عنِ القُرآنِ؛ فهُم لا يُؤمِنونَ به، ولا يَتدبَّرونَه .
وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ.
أي: وللمُشرِكينَ أعمالٌ سَيِّئةٌ رَديئةٌ دونَ أعمالِ المُؤمِنينَ الصَّالحةِ التي ذكرها الله، يُمهِلُهم اللهُ سبحانَه حتَّى يَعمَلوها قبْلَ مَوتِهم؛ فيَحِقَّ عليهمُ العَذابُ .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((فوالَّذي لا إلهَ غَيرُه، إنَّ أحَدَكم لَيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ، حتَّى ما يكونُ بَيْنَه وبيْنَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ، فيَدخُلُها. وإنَّ أحَدَكم لَيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ، حتَّى ما يكونُ بيْنَه وبيْنَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ، فيَدخُلُها) ) .
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64).
أي: فإذا عذَّبَ اللهُ عُظَماءَ المُشرِكينَ المُنعَّمينَ، أخَذوا يَصرُخونَ ويَستَغيثونَ مِن شِدَّةِ عَذابِهم، طالِبينَ الخَلاصَ ممَّا أصابَهم .
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65).
أي: لا تَضِجُّوا وتَستَغيثوا -أيُّها الكافِرونَ-؛ فلا شَيءَ يُخلِّصُكم مِن عذابي، ولا يَنفَعُكم صُراخُكم .
قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّ المُتْرفينَ مِنَ الكُفَّارِ إذا أخَذَهُم ربُّهم بالعذابِ، ضَجُّوا وصاحُوا واستغاثُوا، وبيَّنَ أنَّهم لا يُغاثُونَ؛ بيَّنَ سبَبَ ذلك ، وهو أنَّه متى تُلِيَتْ آياتُ اللهِ عليهم أتَوْا بأُمورٍ ثلاثةٍ: أحدِها: أنَّهم كانوا على أعقابِهم يَنكِصُون، وهذا مَثَلٌ يُضرَبُ فيمَنْ تَباعَد عن الحقِّ كلَّ التَّباعُدِ، وثانِيها: قولُه: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، وثالثِها: يَسْمُرونَ بذِكْرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه .
قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66).
أي: قد كانت آياتُ القُرآنِ تُقرَأُ عليكم؛ لِتُؤمِنوا بها قبْلَ أنْ يَحُلَّ بكمُ العَذابُ، فكنتُم تُكذِّبونَ بها، وتَرجِعونَ مُعرِضينَ عنها .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146] .
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67).
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ.
أي: والحالُ أنَّكم مُستَكبِرونَ بسببِ البيتِ الحرامِ، تقولونَ: لا يَظهَرُ علينا أحدٌ؛ لأنَّا أهلُ الحرمِ .
سَامِرًا تَهْجُرُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: تَهْجُرُونَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ تُهْجِرُونَ بضُمِّ التَّاءِ وكَسرِ الجِيمِ، أي: تُفْحِشُونَ، فكان الكفَّارُ إِذا سمِعوا قِراءَة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم تكلَّموا بالهُجْرِ وهو الفُحشُ، وسبُّوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلمَّ !
2- قِراءةُ تَهْجُرُونَ بفَتحِ التَّاءِ وضَمِّ الجِيمِ، مِن الهَجْرِ بالفتحِ، إمَّا بمعنَى القطيعةِ أو الهذيانِ، أي: تُعرِضونَ عن القرآنِ، أو تهذونَ في شأنِه، مِن قولِك : هجرَ المريضُ، إذا هذَى، أي : تقولون اللغوَ مِن القولِ. وقيل: مِن الهُجْرِ بالضمِّ، أي: الفُحْشِ ، فيرجعُ إلى معنى القراءةِ الأُولى.
سَامِرًا تَهْجُرُونَ.
أي: حالَ كونِكم متحدِّثينَ ليلًا، تَهْذونَ في شأنِ القرآنِ، وتَقولونَ فيه ما لا معنَى له مِن القولِ؛ مِن الباطلِ الذي لا يضرُّه .
كما قال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 4- 5].
وقال تَبارَكَ وتَعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .
وقال تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء: 36] .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ جعَل تعالى الأخْذَ واقعًا على المترفينَ منهم؛ لأنَّهم الذين أضلُّوا عامَّةَ قَومِهم، والعامَّةُ أقرَبُ إلى الإنصافِ إذا فَهِموا الحقَّ؛ بسببِ سلامتِهم مِن جُلِّ دواعي المكابرةِ: مِن توقُّعِ تقلُّصِ سُؤددٍ، وزوالِ نعيمٍ. وكذلك حقٌّ على قادةِ الأُممِ أنْ يُؤاخَذوا بالتبعاتِ اللاحقةِ للعامَّةِ مِن جرَّاءِ أخطائِهم ومُغامرتِهم عن تضليلٍ أو سُوءِ تَدبُّرٍ، وأن يُسألوا عن الخَيبةِ أنْ ألْقَوا بالذين اتَّبعوهم في مهواةِ الخَطرِ، كما قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67، 68]، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل: 25].
2- قَولُ اللهِ تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ لعلَّه إنَّما قال: سَامِرًا بلَفْظِ المُفرَدِ؛ لأنَّ كلًّا منهم يَتحدَّثُ في أمْرِ الآياتِ مُجتمِعًا مع غَيرِه، ومُنفرِدًا مع نفْسِه حَديثًا كثيرًا، كحديثِ المُسامِرِ الَّذي مِن شأْنِه ألَّا يُمَلَّ، وقال: تَهْجُرُونَ أي: تُعرِضونَ عنها، وتقولونَ فيها القولَ الفاحِشَ، فأسنَدَه إلى الجمْعِ؛ لأنَّ بَعضَهم كان يَستمِعُها ولم يكُنْ يُفحِشُ القولَ فيها، أو تَعجيبًا مِن أنْ يَجتمِعَ جمْعٌ على مِثْلِ ذلك؛ لأنَّ الجمْعَ جَديرٌ بأنْ يُوجَدَ فيه مَن يُبصِرُ الحَقَّ، فيأمُرُ به .
3- قال اللهُ تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ الآيةُ تدُلُّ على أنَّ السَّمرَ إنَّما يُكرَهُ في غَيرِ الخيرِ؛ لأنَّ (الهُجْرَ) هو القولُ الفاحِشُ . على قَولٍ في التَّفسيرِ.
4- قولُه تعالى: إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ فيه تأْييسٌ لهم مِن النَّجاةِ مِن العَذابِ الَّذي هُدِّدُوا به .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
- قولُه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا إضْرابُ انتقالٍ إلى ما هو أغرَبُ ممَّا سبَقَ، وهو وَصْفُ غَمرةٍ أُخرى انغمَسَ فيها المُشرِكون .
- قولُه: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ اللَّامُ في قولِه: (لَهُمْ أَعْمَالٌ) للاختصاصِ. وتَقديمُ المَجْرورِ بها على المُبتدأِ أَعْمَالٌ؛ لقَصْرِ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ، أي: لهم أعمالٌ لا يَعمَلون غيرَها مِن أعمالِ الإيمانِ والخَيراتِ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَقديمُ لَهَا على عَامِلُونَ؛ لإفادةِ الاختصاصِ لقَصرِ القلْبِ ، أي: لا يَعمَلون غيرَها مِن الأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي دُعُوا إليها. ويجوزُ أنْ يكونَ للرِّعايةِ على الفاصلةِ؛ لأنَّ القَصرَ قد أُفِيدَ بتَقديمِ المُسنَدِ إليه .
- ووَصْفُ أَعْمَالٌ بجُملةِ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مُستمِرُّونَ عليها لا يُقلِعون عنها؛ لأنَّهم ضُرُّوا بها لكَثرةِ انغماسِهم فيها. وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لإفادةِ الدَّوامِ على تلك الأعمالِ وثَباتِهم عليها .
2- قولُه تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
- قولُه: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ... في تَخصيصِ المُترفينَ بالتَّعذيبِ -مع أنَّ شأْنَ العَذابِ الإلهيِّ إنْ كان دُنْيويًّا أنْ يعُمَّ النَّاسَ كلَّهم-: إشارةٌ إلى أنَّ المُتْرفينَ هم سبَبُ نُزولِ العذابِ بالعامَّةِ، ولولا نُفوذُ كَلِمتِهم على قَومِهم لاتَّبعَتِ الدَّهماءُ الحقَّ، ولأنَّ المُتْرفينَ هم أشَدُّ إحساسًا بالعذابِ؛ لأنَّهم لم يَعتادُوا مَسَّ الضَّراءِ والآلامِ، ولأنَّهم مع كَونِهم مُتَمنِّعينَ مَحْمِيِّينَ بحِمايةِ غَيرِهم مِن المَنَعةِ والحَشَمِ حين لَقُوا ما لَقُوا مِن الحالةِ الفظيعةِ، فلأنْ يَلْقاها مَنْ عَداهم مِن الحُماةِ والخَدمِ أَوْلى وأقدَمُ . ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بالمُتْرفينَ جَميعَ المُشرِكينَ؛ فتَكونَ الإضافةُ بَيانِيَّةً ، ويكونَ ذِكْرُ المُتْرفينَ تَهويلًا في التَّهديدِ؛ تَذكيرًا لهم بأنَّ العذابَ يُزِيلُ عنهم تَرَفَهم؛ فيكونَ المعنى: حتَّى إذا أخَذْناهم وهم في تَرَفِهم .
- وقولُه: إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ كِنايةٌ عن شِدَّةِ ألَمِ العذابِ، بحيث لا يَستطيعونَ صَبرًا عليه؛ فيَصدُرُ منهم صُراخُ التَّأوُّهِ والوَيلِ والثُّبورِ .
3- قولُه تعالى: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ مُعترِضةٌ بيْنَ ما قَبْلَها، وما تَفرَّعَ عليه مِن قولِه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] ، وهي مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ؛ مَسُوقةٌ لرَدِّهم وتَبكيتِهم وإقْناطِهم ممَّا عَلَّقوا به أطْماعَهم الفارِغةَ مِن الإغاثةِ والإعانةِ مِن جِهَتِه تعالى .
- وتَخصيصُ اليومِ بالذِّكرِ؛ لتَهويلِه، والإيذانِ بتَفويتِهم وَقتَ الجُؤارِ .
- وقولُه: إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ تَعليلٌ للنَّهيِ المُستعمَلِ في التَّسويةِ؛ فمَوقِعُ (إنَّ) إفادةُ التَّعليلِ؛ لأنَّها تُغْني غَناءَ فاءِ التَّفريعِ . وتَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ مِنَّا؛ للاهتمامِ بجانِبِ اللهِ تعالى، ولرِعايةِ الفاصلةِ .
- وضُمِّنَ تُنْصَرُونَ معنَى النَّجاةِ؛ فعُدِّيَ الفِعْلُ بـ (مِن)، أي: لا تَنْجُون مِن عَذابِنا، فثَمَّ مُضافٌ مَحذوفٌ .
4- قولُه تعالى: قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ تَعليلٌ لعَدمِ لُحوقِ النَّصرِ مِن جِهَتِه بسَببِ كُفْرِهم بالآياتِ . وقيل: استئنافٌ، والخَبرُ مُسْتَعمَلٌ في التَّنديمِ والتَّلهيفِ، وإنَّما لم تُعطَفِ الجُملةُ على جُملةِ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ؛ لقَصدِ إفادةِ معنًى بها غيرِ التَّعليلِ؛ إذ لا كَبيرَ فائدةٍ في الجَمعِ بيْن عِلَّتينِ .
- قَولُه: قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ لَمَّا كانتْ عَظمةُ الآياتِ -الَّتي استحَقَّتْ بها الإضافةَ إلى اللهِ تعالى- تَكْفي في الحثِّ على الإيمانِ بمُجرَّدِ سَماعِها؛ بُنِيَ للمَفعولِ قولُه: تُتْلَى عَلَيْكُمْ .
- وذِكْرُ فِعلِ (كُنتم)؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك شأْنُهم. وذِكْرُ المُضارِعِ تَنْكِصُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّكرُّرِ، فذلك خُلُقٌ منهم مُعادٌ مَكرورٌ .
5- قوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
- قولُه: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ الضَّميرُ في بِهِ للبَيتِ العَتيقِ أو للحرمِ، والَّذي سَوَّغَ هذا الإضمارَ شُهْرَتُهم بالاستِكبارِ بالبيتِ. ويَجوزُ أنْ يَرجِعَ إلى آَيَاتِي، إلَّا أنَّه ذُكِّرَ؛ لأنَّها في مَعنَى (كتابي). ومعنَى استكبارِهم بالقُرآنِ: تَكذيبُهم به استِكبارًا، ضُمِّنَ مُسْتَكْبِرِينَ معنى مُكذِّبينَ، أو يُحدِثُ لكم استِماعُه استِكبارًا وعُتُوًّا، فأنتم مُستكبِرونَ بسَببِه. أو تَتعلَّقُ الباءُ بـ سَامِرًا، أي: تَسمُرونَ بذِكْرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه. وقيل: الضَّميرُ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُحسِّنُه أنَّ في قولِه: تُتْلَى عَلَيْكُمْ دَلالةً على التَّالي، وهو الرَّسولُ عليه السَّلامُ .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (68-72)
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
غريب الكلمات:
جِنَّةٌ: أي: جُنونٌ، وأصلُ (جنن): السَّترُ والتَّسَتُّرُ، وسُمِّي الجُنونُ بذلك؛ لأنَّه يَستُرُ العقلَ ويُغطِّيه .
خَرْجًا فَخَرَاجُ: الخرْجُ والخراجُ واحدٌ، أي: الأجرُ والجُعلُ والرِّزْقُ، والخرْجُ والخراجُ: الإتاوةُ؛ لأنَّه مالٌ يُخرجُه المُعطي، وقيل: بيْنَهما فرقٌ؛ فالخراجُ ما لَزِمك، والخرجُ ما تَبَرَّعْتَ به، وقيل غيرُ ذلك. وأصلُ (خرج): النَّفاذُ عنِ الشَّيءِ .
المعنى الإجمالي:
يقولُ تعالى: ألم يَتدبَّرْ أولئك المُشرِكونَ القُرآنَ، أمْ جاءهم فيه ما لمْ يأْتِ آباءَهم الأوَّلينَ حتَّى استبعَدوه وأعرَضُوا عنه؟! أمْ لم يَعرِفوا رَسولَهم محمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه الصَّادِقُ الأمينُ، فأنْكَروا ما جاء به؟! أمْ يقولون عنه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: به جنونٌ؟! كلَّا! فليس ما تقدَّم هو سببَ رفضِهم الإيمانَ وتوحيدَ الله، بل السببُ أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جاءَهم بالحَقِّ الثَّابِتِ، وأكثَرُهم كارِهونَ للحَقِّ؛ لأنَّه يَتعارَضُ مع أهوائِهم، ولوِ اتَّبَعَ الحقُّ أهواءَ المُشرِكينَ، لَفسَدَتِ السَّمَواتُ والأرضُ ومَن فِيهنَّ، بلْ أتَيناهم بالقُرآنِ الكريمِ الَّذي فيه شَرَفُهم ومَجْدُهم، ولكِنَّهم عنه مُعرِضونَ!
أم تَسألُهم -يا مُحمَّدُ- أجْرًا على ما جِئْتَهم به مِنَ الحقِّ، فيَمنَعُهم ذلك مِن اتِّباعِه؟! لا، ليس الأمرُ كذلك؛ فثَوابُ اللهِ تعالى على ما تُبلِّغُه مِن رسالتِه خيرٌ لك وأعظَمُ مِن عَطاءِ هؤلاءِ الضُّعفاءِ الَّذين لا يَستَغنونَ أبدًا عن عطاءِ الله تعالى، واللهُ تعالى هو خيرُ الرَّازِقينَ.
تفسير الآيات:
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كانتِ الآياتُ -لِمَا فيها مِنَ البَلاغةِ المُعجزةِ، والحِكَمِ المُعجبةِ- داعيةً إلى تَقبُّلِها بَعدَ تأمُّلِها، وكان الكافِرونَ يُعرِضونَ عنها، ويُفْحِشون في وَصْفِها: تارَةً بالسِّحرِ، وأُخرى بالشِّعرِ، وكرَّةً بالكَهانةِ، ومرَّةً بغَيرِها؛ تسبَّبَ عن ذلك الإنكارُ عليهم .
وأيضًا لَمَّا وَصَفَ اللهُ تعالى حالَ الكافرينَ، ردَّ عليهم -في هذه الآيةِ وما يَليها- بأنْ بيَّنَ أنَّ إقْدامَهم على هذه الأُمورِ لا بُدَّ أنْ يكونَ لأحدِ أُمورٍ أربعةٍ:
أحدِها: ألَّا يَتأمَّلُوا في دَليلِ نُبوَّتِه، وهو المُرادُ مِن قَولِه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ؛ فبيَّنَ أنَّ القولَ الَّذي هو القُرآنُ كان مَعروفًا لهم، وقد مُكِّنوا مِنَ التَّأمُّلِ فيه مِن حيثُ كان مُبايِنًا لكلامِ العرَبِ في الفَصاحةِ، ومُبرَّأً عن التَّناقُضِ في طُولِ عُمرِه، ومِن حيثُ يُنبِّهُ على ما يَلْزَمُهم مِن مَعرفةِ الصَّانعِ، ومَعرِفةِ الوَحدانيَّةِ؛ فلِمَ لا يَتدبَّرونَ فيه لِيَتْرُكوا الباطِلَ، ويَرْجِعوا إلى الحقِّ؟!
وثانيها: أنْ يَعْتَقِدوا أنَّ مَجِيءَ الرُّسلِ أمْرٌ على خِلافِ العادةِ، وهو المُرادُ مِن قولِه: أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؛ وذلك لأنَّهم عَرَفوا بالتَّواتُرِ أنَّ الرُّسلَ كانت تَتواتَرُ على الأُمَمِ، وتَظهَرُ المُعجِزاتُ عليها، وكانتِ الأُمَمُ بيْنَ مُصدِّقٍ ناجٍ، وبيْنَ مُكذِّبٍ هالكٍ بعَذابِ الاستِئصالِ؛ أفمَا دعاهم ذلك إلى تَصديقِ الرَّسولِ؟!
وثالِثِها: ألَّا يَكُونوا عالِمينَ بدِيانَتِه، وحُسْنِ خِصالِه قَبلَ ادِّعائِه للنُّبوَّةِ، وهو المُرادُ مِن قَولِه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؛ نبَّهَ سُبحانَه بذلك على أنَّهم عَرَفوا منه قبْلَ ادِّعائِه الرِّسالةَ كَونَه في نِهايةِ الأمانةِ والصِّدقِ، وغايةِ الفِرارِ مِنَ الكذِبِ والأخلاقِ الذَّميمةِ؛ فكيف كذَّبوهُ بَعدَ أنِ اتَّفقَتْ كَلِمَتُهم على تَسمِيَتِه بالأمينِ؟!
ورابِعِها: أنْ يَعتَقِدوا فيه الجُنونَ، فيَقولوا: إنَّما حمَلَه على ادِّعائِه الرِّسالةَ جُنونُه، وهو المُرادُ مِن قولِه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، وهذا أيضًا ظاهِرُ الفسادِ؛ لأنَّهم كانوا يَعلمونَ بالضَّرورةِ أنَّه أعقَلُ النَّاسِ، والمَجنونُ كيف يُمكِنُه أنْ يأتِيَ بمِثْلِ ما أتَى به مِنَ الدَّلائلِ القاطِعةِ، والشَّرائعِ الكاملةِ ؟!
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68).
أي: أفلمْ يَتدبَّرْ أولئك المُشرِكونَ القُرآنَ؛ فيَعقِلوا مَعانِيَه، ويَعلَموا ما فيه، ويَعمَلوا به ويتَّبِعوه، أمْ جاءَهم فيه ما لم يأْتِ آباءَهم الَّذين مِن قَبْلِهم، فأنكَروه وأعرَضوا عنه ؟!
كما قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
وقال سُبحانَه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] .
وقال عَزَّ وجَلَّ: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 21 - 24] .
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الرَّجلُ الكامِلُ مَن عرَفَ الرِّجالَ بالحقِّ؛ بدَأَ بما أشارَ إليه، ثمَّ أعقَبَه بمَن يَعرِفُ الشَّيءَ للإِلْفِ به، ثمَّ بمَن يَعرِفُ الحقَّ بالرِّجالِ، فقال :
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69).
أي: أمْ لم يَعرِفِ المُشرِكونَ رَسولَهم مُحمَّدًا، وأنَّه مِن أهلِ الصِّدقِ والأمانةِ، فيُنكِروا قَولَه ؟!
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان البشَرُ قد يَعرِضُ له ما يَسلُبُ خِصالَهُ -وهو اختلالُ عقْلِه- عطَفَ على أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ قولَه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، أي: ألَعلَّهم ادَّعَوا أنَّ رَسولَهم الَّذي يَعرِفونَه قد أُصِيبَ بجُنونٍ، فانقلَبَ صِدْقُه كذِبًا ؟!
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ.
أي: أمْ يَحتجُّونَ في تَركِ الإيمانِ بدَعوى أنَّ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم جُنونًا ؟!
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف: 184] .
وقال سُبحانَه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] .
بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا كانت هذه الأقسامُ مُنْتفيَةً، ولا سيَّما الأخيرِ المُستَلزِمِ عادةً للتَّخليطِ المُستلْزِمِ للباطلِ؛ فإنَّهم أعرَفُ النَّاسِ بهذا الرَّسولِ الكريمِ، وأنَّه أكمَلُهم خَلْقًا، وأشرَفُهم خُلُقًا، وأطهَرُهم شِيَمًا، وأعظَمُهم هِمَمًا، وأرجَحُهم عَقْلًا، وأمتَنُهم رأْيًا، وأرضاهُم قَولًا، وأصوَبُهم فِعْلًا: أضرَبَ عنها، وقال :
بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.
أي: ليس سَبَبُ رَفْضِهمُ الإيمانَ وتَوحيدَ الرَّحمنِ شيئًا مِمَّا تقَدَّمَ ذِكْرُه، بلِ السَّبَبُ الَّذي دعاهم للتَّمسُّكِ بشِرْكِهم وكُفرِهم هو أنَّ مُحمَّدًا قد جاءَهم بالحَقِّ، وأكثَرُهم يَكرَهونَ القَبولَ والإذعانَ لهذا الحَقِّ المُخالِفِ لأهوائِهم !
كما قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس: 15- 17] .
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71).
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
أي: ولو جاء الحَقُّ بما يُوافِقُ أهواءَهم الفاسِدةَ المُختَلِفةَ، لفَسَدتِ السَّمواتُ والأرضُ ومَن فيهنَّ مِنَ المَخلوقاتِ، واختَلَّ نِظامُ العالَمِ .
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
أي: بلْ أتَينا أولئك المُشرِكينَ بالقُرآنِ المُبَيِّنِ للحَقِّ، وفيه شَرَفُهم وعِزُّهم في دُنياهم وأُخراهم؛ فهُمْ عن القُرآنِ -الَّذي فيه شَرَفُهم وعِزُّهم- مُعرِضونَ لا يَتَّبِعونَه !
كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] .
وقال سُبحانَه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44] .
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أبطَلَ اللهُ تعالى وُجوهَ طعْنِ الكافرينَ في المُرسَلِ به والمُرسَلِ؛ مِن جِهَةِ جَهْلِهم مرَّةً، ومِن جِهَةِ ادِّعائِهم البُطلانَ أُخرى؛ نبَّهَهم على وَجْهٍ آخَرَ، هم أعرَفُ النَّاسِ ببُطلانِه؛ لِيُثْبِتَ المُدَّعَى مِنَ الصِّحَّةِ إذا انتفَتْ وُجوهُ المَطاعِنِ، فقال مُنكِرًا :
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.
أي: أمْ تَسأَلُ -يا مُحمَّدُ- مُشرِكي قَومِك أجْرًا على ما جِئتَهم به مِنَ الحَقِّ، فيَمنَعُهم ذلك مِن اتِّباعِه؟! كلَّا! ليس الأمرُ كذلك؛ فثَوابُ اللهِ الَّذي يُعْطيك على تَبليغِ رِسالتِه خَيرٌ لك مِن ذلك؛ فما الَّذي يَمنَعُهم -إذنْ- مِن اتِّباعِ الحقِّ ؟!
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
أي: واللهُ خيرُ مَن يُعطي عِبادَه ويَرزُقُهم مِن فَضلِه .
الفوائد التربوية:
1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي: أفلَا يَتفكَّرونَ في القُرآنِ ويَتأمَّلونَه ويَتدبَّرونَه، أي: فإنَّهم لو تَدبَّروهُ لَأوجَبَ لهم الإيمانَ، ولَمنَعَهُم مِنَ الكُفرِ، ولكنَّ المُصيبةَ الَّتي أصابَتْهُم بسَببِ إعراضِهم عنه، ودَلَّ هذا على أنَّ تَدبُّرَ القُرآنِ يَدْعُو إلى كلِّ خَيرٍ، ويَعصِمُ مِن كلِّ شَرٍّ، والَّذي منَعَهم مِن تَدبُّرِه أنَّ على قُلوبِهم أقْفالَها .
2- قال اللهُ تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ، وقال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ [ص: 29] ، وقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ [النساء: 82] [محمد: 24] ، وتَدبُّرُ الكلامِ بدُونِ فَهمِ مَعانِيه لا يُمكِنُ. وكذلك قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2] ، وعَقْلُ الكلامِ مُتضمِّنٌ لِفَهْمِه. ومِنَ المَعلومِ أنَّ كلَّ كلامٍ فالمقصودُ منه فَهْمُ مَعانِيه دُونَ مُجرَّدِ ألْفاظِه؛ فالقُرآنُ أَولى بذلك، وأيضًا فالعادةُ تَمنَعُ أنْ يَقرَأَ قَومٌ كِتابًا في فَنٍّ مِنَ العِلْمِ -كالطِّبِّ والحِسابِ- ولا يَسْتَشرِحوه؛ فكيف بكلامِ اللهِ الَّذي هو عِصْمَتُهم، وبه نَجاتُهم وسَعادَتُهم، وقِيامُ دِينِهم ودُنياهم ؟!
3- التَّأمُّلُ في القُرآنِ هو تَحديقُ ناظِرِ القَلْبِ إلى مَعانِيه، وجمْعُ الفِكْرِ على تَدبُّرِه وتَعقُّلِه، وهو المقصودُ بإنزالِه، لا مُجرَّدُ تِلاوَتِه بلا فَهْمٍ ولا تَدبُّرٍ؛ قال اللهُ تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] ، وقال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] ، وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] . وقال الحسَنُ: (نزَلَ القُرآنُ؛ لِيُتدبَّرَ ويُعمَلَ به، فاتَّخَذوا تِلاوَتَه عمَلًا!). فليس شَيءٌ أنفَعَ للعَبْدِ في مَعاشِه ومَعادِه، وأقرَبَ إلى نَجاتِه؛ مِن تَدبُّرِ القُرآنِ، وإطالةِ التَّأمُّلِ فيه، وجمْعِ الفِكْرِ على مَعاني آياتِه؛ فإنَّها تُطْلِعُ العبْدَ على مَعالِمِ الخيرِ والشَّرِّ بحَذافيرِهما، وعلى طُرقاتِهما وأسبابِهما، وغاياتِهما وثَمراتِهما، ومآلِ أهْلِهما، وتَضَعُ في يَدِه مَفاتيحَ كُنوزِ السَّعادةِ والعُلومِ النَّافعةِ، وتُثبِّتُ قَواعِدَ الإيمانِ في قَلْبِه، وتُشيِّدُ بُنيانَه، وتُوطِّدُ أركانَه، وتُرِيه صُورةَ الدُّنيا والآخرةِ والجنَّةِ والنَّارِ في قَلْبِه، وتُحضِرُه بيْنَ الأُمَمِ، وتُرِيهِ أيَّامَ اللهِ فيهم، وتُبصِّرُه مَواقِعَ العِبَرِ، وتُشهِدُه عَدْلَ اللهِ وفَضْلَه، وتُعرِّفُه ذَاتَه وأسماءَه، وصِفاتِه وأفعالَه، وما يُحِبُّه وما يُبغِضُه، وصِراطَه المُوصِلَ إليه، وما لِسالِكِيه بَعدَ الوُصولِ والقُدومِ عليه، وقَواطِعَ الطَّريقِ وآفاتِها، وتُعرِّفُه النَّفْسَ وصِفاتِها، ومُفسداتِ الأعمالِ ومُصحِّحاتِها، وتُعرِّفُه طَريقَ أهْلِ الجنَّةِ وأهْلِ النَّارِ، وأعمالَهم وأحوالَهم وسِيمَاهم، ومَراتِبَ أهْلِ السَّعادةِ وأهْلِ الشَّقاوةِ، وأقسامَ الخلْقِ، واجتماعَهم فيما يَجتَمِعونَ فيه، وافْتِراقَهم فيما يَفترِقونَ فيه.
وبالجُملةِ: تُعرِّفُه الرَّبَّ المَدْعُوَّ إليه، وطَريقَ الوُصولِ إليه، وما له مِنَ الكرامةِ إذا قَدِمَ عليه.
وتُعرِّفُه في مُقابِلِ ذلك ثلاثةً أُخرى: ما يَدْعُو إليه الشَّيطانُ، والطَّريقَ المُوصِلَةَ إليه، وما للمُستجيبِ لِدَعوتِه مِنَ الإهانةِ والعذابِ بَعدَ الوُصولِ إليه. فهذه سِتَّةُ أُمورٍ ضَروريٌّ للعبْدِ مَعرِفَتُها، ومُشاهدَتُها ومُطالعَتُها.
وفي تأمُّلِ القُرآنِ وتَدبُّرِه وتَفهُّمِه: أضعافُ أضعافِ ما ذكَرْنا مِن الحِكَمِ والفوائدِ. وبالجُملةِ فهو أعظَمُ الكُنوزِ .
4- قال الله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فبيَّنَ سُبحانَه أنَّ الحقَّ لا يَتَّبِعُ الهَوى، بلِ الواجِبُ على المُكلَّفِ أنْ يَطرَحَ الهوَى ويَتَّبِعَ الحقَّ؛ فبيَّنَ سُبحانَه أنَّ اتِّباعَ الهَوى يُؤدِّي إلى الفَسادِ العظيمِ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ، لعلَّهُ عبَّرَ بـ (القول)؛ إشارةً إلى أنَّ مَن لم يَتقبَّلْه ليس بأهْلٍ لِفَهمِ شَيءٍ مِنَ القَولِ، بلْ هو في عِدادِ البَهائمِ .
2- في قولِه تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ دليلٌ على أنَّ في سَجايا النَّاسِ نُبُوًّا عمَّا لم يَسْمَعوا به؛ ولم تَجْرِ سُنَّتُه فيمَن قَبْلَهم، فصارتِ الحُجَّةُ عليهم بذلك مِن حيثُ يَعقِلُونها ولا يُنكرونُ تَخصيصَهم بما دُعُوا إليه؛ لِتَكونَ أوْكَدَ عليهمْ، وأَبْعَدَ لهم مِن أنْ يُعْذَرُوا عندَ أنفُسِهم، لا أنَّها لا تَلْزَمُهم ولا تَجِبُ عليهم إلَّا بما صارَ سُنَّةً في غَيرِهم؛ فقد أُمِرَ آدمُ بتَرْكِ الأكْلِ مِنَ الشَّجرةِ، ولَزِمَتْه حُجَّةُ ربِّه، ولم يَتقدَّمْ له في ذلك مُتَقَدِّمٌ؛ فليس لأحدٍ رَدُّ حُجَّةٍ واضحةٍ يُورِدُها عليه مُورِدٌ -وإنْ لم يكُنْ سَمِعَها مِن غَيرِه، ولا سَبَقَ مُورِدَها إليه سِواهُ- اعتمادًا على أنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤُه قال في هؤلاء: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؛ لأنَّ ذلك منه -واللهُ أعلَمُ- على معنَى النَّكيرِ لا على الارتِضاءِ .
3- في قولِه تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ تَدَبُّرُ الكلامِ هو أنْ يَنْظُرَ في أوَّلِه وآخِرِه، ثمَّ يُعِيدَ نظَرَه مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ؛ ولهذا جاء (التَّدَبُّرُ) على بِناءِ (التَّفَعُّل)؛ كالتَّجَرُّعِ، والتَّفَهُّمِ، والتَّبَيُّنِ .
4- في قولِه تعالى: أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ دَلالةٌ على أنَّ الجَدَّ أَبٌ .
5- في قولِه تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دَليلٌ على أنَّ خَبرَ الواحدِ يَلْزَمُ قَبولُه بشَرْطِ مَعرفةِ المُخْبَرِ بصِدْقِ المُخْبِرِ، وثَباتِ عَقْلِه؛ ألَا ترَى أنَّ حُجَجَ قُريشٍ كانت مُنقطِعةً بما عَرَفَتْ مِن عَقْلِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصِدْقِه؛ فلَزِمَهم خبَرُه عن اللهِ جَلَّ جَلالُه؟ إِذْ لا عِلَّةَ لهم في رَسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتعلَّقونَ بها، ويأْوونَ في تَكذيبِه إليها، وهذا مِن أكبَرِ ما يُحتَجُّ به في تَثبيتِ خَبرِ الواحدِ لِمَن تدبَّرَهُ .
6- قال اللهُ تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ الحقَّ لوِ اتَّبَعَ أهواءَ العِبادِ، فجاء شَرْعُ اللهِ ودِينُه بأهوائِهم؛ لَفسدَتِ السَّمواتُ والأرضُ ومَن فِيهنَّ، وأنَّه مِن المُحالِ أنْ يَتَّبِعَ الحقُّ أهواءَهم، وأنَّ أهواءَهُم مُشتمِلةٌ على قُبْحٍ عَظيمٍ؛ لو وَرَدَ الشَّرعُ به لَفَسَد العالَمُ: أعلاهُ وأسفْلُه وما بيْن ذلك، ومَعلومٌ أنَّ هذا الفسادَ إنَّما يكونُ لِقُبْحِ خِلافِ ما شرَعَه اللهُ وأمَرَ به، ومُنافاتِه لِصلاحِ العالَمِ عُلْوِيِّه وسُفْلِيِّه، وأنَّ خَرابَ العالَمِ وفَسادَه لَازِمٌ لِحُصولِه ولِشَرْعِه، وأنَّ كَمالَ حِكْمةِ اللهِ وكَمالَ عِلْمِه ورَحْمَتِه ورُبوبيَّتِه يأْبى ذلك ويَمنَعُ منه .
7- قولُه تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ دَلَّ بهذا على عِظَمِ شأْنِ الحقِّ، وأنَّ السَّمواتِ والأرضَ ما قامت ولا مَن فِيهنَّ إلَّا بهِ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، كأنَّه سمَّاهُ (خَراجًا) إشارةً إلى أنَّه أوجَبَ رِزْقَ كلِّ أحدٍ على نفْسِه بوَعْدٍ لا خُلْفَ فيه .
9- قولُه تعالى: خَيْرُ الرَّازِقِينَ دَلَّ على أنَّ العِبادَ قد يَرزُقُ بَعضُهم بَعضًا ، فصِيغةُ التَّفضيلِ في قولِه: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ نظرًا إِلى أنَّ بعضَ المخلوقينَ يرزُقُ بعضَهم، كقولِه تعالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] ، وقولِه تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ الآيةَ [البقرة: 233] ، ولا شكَّ أَنَّ فضلَ رزقِ اللهِ خَلْقَه على رزقِ بعضِ خَلْقِه لبعضِهم كفَضْلِ ذَاتِه وسائِرِ صفاتِه على ذَواتِ خَلْقِه وصِفاتِهم . فقولُه: خَيْرُ الرَّازِقِينَ دَلَّ على أنَّه لا يُساويهِ أحدٌ في الإفضالِ على عِبادِه ، فكلُّ مَن يَرزُقُ غيرَه -مِن سُلْطانٍ يَرزُقُ جُندَهُ، أو سيِّدٍ يَرزُقُ عبْدَهُ، أو رجُلٍ يَرزُقُ عِيالَهُ- فهو واسطةٌ لا يَقدِرُ إلَّا على ما قدَّرَه اللهُ، وأمَّا هو سُبحانَه فهو يُوجِدُ المَعدومَ، ويَرزُقُ مَن يُطيعُه ومَن يَعْصيه، ولا يَضيقُ رِزْقُه بأحدٍ، ولا يَشغَلُه فيه أحدٌ عن أحدٍ .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ هَمزةُ الاستفهامِ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، والفاءُ للعَطفِ على مُقدَّرٍ يَنسحِبُ عليه الكلامُ، أي: فَعَلُوا ما فعَلُوا مِن النُّكوصِ والاستكبارِ والهَجرِ، فلم يَتدبَّروا القُرآنَ . وهو تَقريعٌ وتَوبيخٌ على إعراضِهم عن اتِّباعِ الحقِّ، والانتفاعِ بالقُرآنِ . وقيل: الفاءُ لتَفريعِ الكلامِ على الكلامِ السَّابقِ، وهو قولُه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا إلى قولِه: سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون: 63-67] . وهذا التَّفريعُ مُعترِضٌ بيْن جُملةِ: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وجُملةِ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ ... إلخ [المؤمنون: 75] .
- و(أمْ) في قولِه: أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مُنقطِعةٌ، وما فيها مِن مَعنَى (بل) للإضرابِ والانتقالِ عنِ التَّوبيخِ بما ذُكِرَ إلى التَّوبيخِ بآخَرَ، والهمزةُ لإنكارِ الوُقوعِ لا لإنكارِ الواقعِ .
- قولُه: أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ إنْ كان المُرادُ ظاهِرَ مَعنى الصِّلةِ، وهي ما لم يأْتِ آباءَهم الأوَّلِينَ مِن أنَّ الدِّينَ الَّذي جاءهم لا عَهْدَ لهم به، تَعيَّنَ أنْ يكونَ في الكلامِ تَهكُّمٌ بهم؛ إذ قد أنْكَروا دِينًا جاءهم، ولم يَسبِقْ مَجِيئُه لآبائِهم. ووَجْهُ التَّهكُّمِ: أنَّ شأْنَ كلِّ رسولِ جاء بدِينٍ أنْ يكونَ دِينُه أُنُفًا -جديدًا-، ولو كان للقومِ مِثْلُه لكانَ مِجيئُه تَحصيلَ حاصلٍ. وإنْ كان المُرادُ مِن الصِّلةِ أنَّه مُخالِفٌ لِمَا كان عليه آباؤُهم؛ لأنَّ ذلك مِن معنى لم يأْتِ آباءَهم؛ كان الكلامُ مُجرَّدَ تَغليطٍ، أي: لا اتِّجاهَ لكُفْرِهم به؛ لأنَّه مُخالِفٌ لِمَا كان عليه آباؤُهم؛ إذ لا يكونُ الدِّينُ إلَّا مُخالِفًا للضَّلالةِ .
2- قوله تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
- قولُه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ إضْرابٌ وانتقالٌ مِن التَّوبيخِ بما ذُكِرَ إلى التَّوبيخِ بوَجهٍ آخَرَ، والهمزةُ في أَمْ لإنكارِ الوُقوعِ . وهو إضْرابٌ على سَبيلِ التَّرقِّي، وكذلك قولُه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ؛ فإنَّه لمَّا أثبَتَ لهم الجَهلَ الموروثَ، أضرَبَ عن ذلك بإثْباتِ الجَهلِ المُكتسَبِ، وهو عدَمُ جَرْيِهم بمُوجَبِ العِلْمِ؛ فإنَّ الهَمزةَ في أَمْ للسُّؤالِ مُجْرًى للمعلومِ مَساقَ غَيرِه تَجْهيلًا، أو للتَّوبيخِ؛ فقولُه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ واردٌ على سَبيلِ التَّوبيخِ على الإعراضِ، ثمَّ أضرَبَ عنه بقولِه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ .
- قولُه: فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي: جاحِدُون بِنُبوَّتِه؛ فجُحودُهم بها مُترتِّبٌ على عَدَمِ مَعرفَتِهم بشأْنِه عليه السَّلامُ، ومِن ضَرورةِ انتفاءِ المَبْنيِّ: بُطلانُ ما بُنِيَ عليه، أي: فهُمْ غيرُ عارفينَ له عليهِ السَّلامُ؛ فهو تأْكيدٌ لِمَا قَبلَه .
3- قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ انتقالٌ إلى تَوبيخٍ آخَرَ، والهمزةُ لإنكارِ الواقِعِ كالهمزةِ الأُولى في قولِه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ .
- وقد رُوعِيَ في هذه التَّوبيخاتِ الأربعةِ، الَّتي اثنانِ منها مُتعلِّقانِ بالقُرآنِ، والباقيانِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: التَّرقِّي مِن الأدْنى إلى الأعلى؛ حيثُ وُبِّخُوا أوَّلًا بعدَمِ التَّدبُّرِ، ثمِّ وُبِّخوا بشَيءٍ لو اتَّصَفَ به القولُ لكان سببًا لِعدَمِ تَصديقِهم به، ثمَّ وُبِّخوا بما يَتعلَّقُ بالرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن عَدمِ مَعرِفَتِهم به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك يَتحقَّقُ بعَدمِ المعرفةِ بخَيرٍ ولا شَرٍّ، ثمَّ بما لو كان فيه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك لَقَدَحَ في رِسالَتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما سبَقَ .
- قولُه: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ تَقْييدُ الحُكْمِ بـ (الأكثرِ)؛ لأنَّ منهم مَن ترَكَ الإيمانَ استِنكافًا مِن تَوبيخِ قَومهِ، أو لِقِلَّةِ فِطْنَتِه وعَدمِ تَفكُّرِه، لا لكَراهَتِه الحقَّ. أو يكونُ الضَّميرُ في قولِه: وَأَكْثَرُهُمْ على الجِنسِ للنَّاسِ كافَّةً، ولمَّا ذكَرَ هذه الطَّائفةَ مِن الجِنْسِ، بَقِيَ الكلامُ في قولِه: وَأَكْثَرُهُمْ على الجِنْسِ بجُملَتِه. ويحتمِلُ أنْ يُرادَ بالأكثرِ الكلُّ، كما حُمِلَ القليلُ على النَّفيِ؛ فيكونُ قولُه:وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ تَذْييلًا .
- وقولُه: لِلْحَقِّ كَارِهُونَ فيه الإظهارُ في مَوقعِ الإضمارِ، وهو يُنبِئُ عن كُرْهِهم للحقِّ مِن حيثُ هو حَقٌّ أيَّ حَقٍّ كان، لا لهذا الحقِّ فقطْ . وقُدِّمَ المَعمولُ لِلْحَقِّ اهتِمامًا بذِكْرِ الحقِّ؛ حتَّى يَسْتوعِيَ السَّامِعُ ما بَعدَهُ، فيَقَعَ مِن نَفْسِه حُسْنُ سَماعِه مَوقِعَ العجَبِ مِن كارهِيهِ، ولمَّا ضَعُفَ العامِلُ فيه بالتَّأخيرِ قُرِنَ المعمولُ بلامِ التَّقويةِ .
4- قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ
- قولُه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ المَعطوفِ والمَعطوفِ عليه، وهو أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا [المؤمنون: 72] وأَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون: 70] . وقيل: هو استِئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ أنَّ أهواءَهم الزَّائغةَ الَّتي ما كَرِهُوا الحقَّ إلَّا لعَدمِ مُوافَقَتِه إيَّاها مُقْتضيةٌ للطَّامَّةِ . وقيل: عُطِفَ هذا الشَّرطُ الامتناعيُّ على جُملةِ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70] ؛ زِيادةً في التَّشنيعِ على أهوائِهم؛ فإنَّها مُفْضيةٌ إلى فَسادِ العالَمِ ومَن فيه، وكَفَى بذلك فَظاعةً وشَناعةً .
- قولُه: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ انتِقالٌ مِن تَشنيعِهم بكَراهةِ الحقِّ الَّذي به يَقومُ العالَمُ، إلى تَشنيعِهم بالإعراضِ عمَّا جُبِلَ عليه كلُّ نَفْسٍ مِنَ الرَّغبةِ فيما فيه خَيرُها . وهو إبْطالٌ لِمَا اقْتَضاهُ الفرْضُ في قولِه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ، أي: بلْ لم يتَّبِعِ الحقُّ أهواءَهم، فأبْلَغْنا إليهم الحقَّ على وَجْهِه بالقُرآنِ الَّذي هو ذِكْرٌ لهم، يُوقِظُ عُقولَهم مِن سُباتِها؛ جُعِلَ إبلاغُ الحقِّ لهم بالأدِلَّةِ بمَنزِلةِ تَذكيرِ النَّاسي شيئًا طال عَهْدُه به .
- وفي إسنادِ الإتيانِ بالذِّكرِ إلى نُونِ العَظمةِ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ بَعدَ إسنادِه إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ: تَنويهٌ لِشَأْنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَنبيهٌ على كَونِه بمَثابةٍ عَظيمةٍ منه عَزَّ وجَلَّ. وفي إيرادِ القُرآنِ الكريمِ عندَ نِسبَتِه إليه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعُنوانِ الحقِّيَّةِ، وعندَ نِسبَتِه إليه تعالى بعُنوانِ الذِّكرِ- ما لا يَخْفَى؛ فإنَّ التَّصريحَ بحَقِّيَّتِه المُستلْزِمةِ لِحَقِّيَّةِ مَن جاء به هُو الَّذي يَقْتضيهِ مَقامُ حِكايةِ ما قالَهُ المُبطِلون في شأْنِه، وأمَّا التَّشريفُ فإنَّما يَلِيقُ به تعالى لا سيَّما رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحدَ المُشرَّفينَ .
- وفي قولِه: فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ الفاءُ لِتَفريعِ إعراضِهم على الإتيانِ بالذِّكرِ إليهم، أي: فتفرَّعَ على الإرسالِ إليهم بالذِّكرِ إعراضُهم عنه . وفيه وَضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ الضَّميرِ، حيث لم يقُلْ: (عنه)، وفي هذا مَزيدُ تَشنيعٍ لهم وتَقريعٍ .
- وأيضًا في قولِه: فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ التَّعبيرُ عن إعراضِهم بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ إعراضِهم وتَمكُّنِه منهم. وتَقديمُ المجرورِ عَنْ ذِكْرِهِمْ على عامِلِه مُعْرِضُونَ؛ للاهتمامِ بذِكْرِهم؛ لِيَكونَ إعراضُهم عنه مَحَلَّ عَجَبٍ .
5- قوله تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- قولُه: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ (أمْ) للانتقالِ إلى استفهامٍ آخَرَ عن دَواعي إعراضِهم عن الرَّسولِ، واستِمرارِ قُلوبِهم في غَمرةٍ. والاستفهامُ المُقدَّرُ هنا إنكاريٌّ تَوبيخيٌّ، أي: ما تسأَلُهم خَرْجًا، فيَعتذِروا بالإعراضِ عنك لأجْلِه؛ شُحًّا بأموالِهم .
- وفي قولِه: خَرْجًا فَخَرَاجُ تفنُّنٌ في الكلامِ؛ تَجنُّبًا لإعادةِ اللَّفظِ في غَيرِ المقامِ المُقْتَضي إعادةَ اللَّفظينِ مع قُربِ اللَّفظينِ .
- وقولُه: فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ تَعليلٌ لِنَفيِ السُّؤالِ المُستفادِ مِن الإنكارِ. وفي التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مِن تَعليلِ الحُكمِ وتَشريفِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا يَخْفى .
- وجُملةُ: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ جُملةٌ مُعترِضةٌ؛ تَكميلًا للغرَضِ بالثَّناءِ على اللهِ والتَّعريفِ بسَعةِ فَضْلِه. وفيه تَقريرٌ وتأْكيدٌ لِمَعنَى: فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (73-77)
ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
غريب الكلمات:
لَنَاكِبُونَ: أي: لجائِرونَ، مُنحرِفون، مُعْرِضونَ؛ يقال: نَكَبَ عن كذا، أي: عدَل عنه ومالَ، وأصلُ (نكب): يدُلُّ على مَيْلٍ .
لَلَجُّوا: أي: لَثَبَتُوا، ولتَمادَوْا، ولاستَمرُّوا، واللَّجاجُ: التَّمادي والعِنادُ في تعاطي الفِعلِ المزجورِ عنه، وأصل (لجج): يدُلُّ على تردُّدِ الشيءِ بَعضِه على بعضٍ، وترديدِ الشيءِ .
طُغْيَانِهِمْ: أي: عُتُوِّهِم وتَكبُّرِهم، وأصلُ الطُّغيان: مجاوزةُ الحَدِّ .
يَعْمَهُونَ: أي: يتَحيَّرون ويَجورونَ عَن الطَّرِيق، وأصلُ العَمَهِ: التردُّدُ في الأمْرِ مِن التحيُّرِ .
اسْتَكَانُوا: أي: خشَعوا وذَلُّوا، وخَضَعوا، وأصلُ الاستِكانةِ: إظهارُ الضَّعْفِ .
يَتَضَرَّعُونَ: أي: يَتذلَّلُون، ويَدْعُون في خشوعٍ، وأصلُ (ضرع): يَدُلُّ على لِينٍ في الشَّيءِ .
مُبْلِسُونَ: أي: مُتحيِّرون، ويائِسون مُلقون بأيديهم، والإبلاسُ: الحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، وأصلُ (بلس): يدلُّ على اليأسِ .
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: إنَّك -يا محمَّدُ- تَدْعُو قَومَك إلى الإسلامِ؛ وهو الدِّينُ القويمُ، ولكِنَّ هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ مُنحَرِفونَ عن ذلك الصِّراطِ المُستقيمِ إلى غَيرِه.
ويبيِّنُ تعالى أنَّه لو رَحِمهم وكشَف عنهم ما أصابهم مِن ضُرٍّ في الدنيا، لَتَمادَوْا في الكُفرِ والعِنادِ والضلالِ الذي تجاوَزوا به الحدَّ، وهم يترَدَّدونَ متحيِّرينَ، لا يُفَرِّقونَ بينَ الحقِّ والباطلِ.
ويخبِرُ تعالى أنَّه قد أخَذهم بالعذابِ في الدنيا؛ كإصابتِهم بالفقرِ والجوعِ وغيرِ ذلك، فما خَضَعوا لربِّهم، وما تَضَرَّعوا إليه سُبحانَه بالدُّعاءِ الخالِصِ لِيَكشِفَ عنهم البَلاءَ الَّذي حلَّ بهم، بلِ استَمرُّوا على جُحودِهم وعِنادِهم، حتَّى إذا فتَح الله عليهم بابًا مِنَ العذابِ الشَّديدِ إذا هم فيه نادِمونَ على ما فَعلوه مِن كفرٍ وتكذيبٍ بالحقِّ، آيِسُونَ مِن كلِّ نَجاةٍ!
تفسير الآيات:
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا زيَّفَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى طَريقةَ القَومِ؛ أتبَعَه ببَيانِ صِحَّةِ ما جاء به الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أعقَبَ تَنزيهَ الرَّسولِ عمَّا افتراهُ المُشرِكونَ عليه، بتَنزيهِ الإسلامِ عمَّا وَسَمُوه به مِنَ الأباطيلِ، والتَّنزيهِ بإثباتِ ضِدِّ ذلك؛ وهو أنَّه صِراطٌ مُستقيمٌ، أي: طريقٌ لا الْتِواءَ فيه، ولا عَقَباتٍ .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كانتْ عَظَمةُ المَلِكِ مُقْتضِيةً لِتَقبُّلِ ما أتَى به، والتَّشرُّفِ به على أيِّ حالٍ كان؛ نبَّهَ على أنَّه حقٌّ، يُكسِبُ قَبولُه الشَّرفَ لو لم يكُنْ مِن عندِ المَلِكِ؛ فكيف إذا كان مِن عِندِه؟! فكيف إذا كان مَلِكَ المُلوكِ ومالِكَ المُلْكِ؟! فكيف إذا كان الآتِي به خالِصةَ العِبادِ، وأشرَفَ الخلْقِ؟! كما قام عليه الدَّليلُ بنَفْيِ هذه المطاعِنِ كلِّها، فقال عاطِفًا على أَتَيْنَاهُمْ [المؤمنون: 71] :
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73).
أي: وإنَّك -يا محمَّدُ- لَتَدْعُو مُشركي قَومِك إلى طَريقٍ مُستقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه، وهو دِينُ الإسلامِ .
كما قال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67] .
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74).
أي: وإنَّ المُكذِّبينَ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ لَمُنحرِفونَ عن طَريقِ الحَقِّ المُستقيمِ، المُوصِلِ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه، فصائِرونَ إلى النَّارِ .
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75).
أي: ولو رَحِمْنا هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، ورفَعْنا ما أصابَهم مِن عذابِ الدُّنيا مِن قَحْطٍ وجَدْبٍ وفَقرٍ؛ لَتَمادَوْا واستَمرُّوا في كُفرِهم وضَلالِهم الَّذي تَجاوَزوا فيه الحَدَّ، وهم يَتردَّدونَ حيَارى لا يُميِّزونَ الحقَّ مِنَ الباطِلِ .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّها استِدلالٌ على مَضمونِ قولِه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: 75] ، بسابِقِ إصرارِ المُشرِكينَ على الشِّركِ، والإعراضِ عن الالْتِجاءِ إلى اللهِ، وعدَمِ الاتِّعاظِ بأنَّ ما حَلَّ بهم مِن العذابِ هو جَزاءُ شِرْكِهم .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
أي: ولقدْ أصَبْناهم بعَذابِ الدُّنيا -كإصابتِهم بالجُوعِ وغَيرِه- فما خَضَعوا لربِّهم بالانقيادِ لأوامِرِه، واجتِنابِ نواهِيهِ، وما دَعَوْه بخُشوعٍ وتذَلُّلٍ وافتِقارٍ؛ لِيَرفَعَ عنهم البلاءَ الذي أصابَهم !
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94- 95] .
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77).
أي: حتَّى إذا فتَحْنا عليهم عَذابًا شديدًا، إذا هم في ذلك العَذابِ الشَّديدِ نادِمونَ على ما صدَرَ منهم مِن كُفْرٍ وتَكذيبٍ بالحَقِّ، آيِسُونَ مِن حُصولِ الخَيرِ والفَرَجِ والنَّجاةِ !
الفوائد التربوية:
1- قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآياتِ الكريماتِ والتي قبْلَها كلَّ سَببٍ مُوجِبٍ للإيمانِ، وذكَرَ الموانِعَ، وبيَّنَ فَسادَها، واحدًا بَعْدَ واحدٍ، فذكَر مِنَ الموانِعِ: أنَّ قُلوبَهم في غَمرةٍ، وأنَّهم لم يَدَّبَّروا القولَ، وأنَّهم اقْتَدَوا بآبائِهم، وأنَّهم قالوا برسولِهم جِنَّةٌ، وذكَرَ مِنَ الأُمورِ المُوجِبةِ لإيمانِهم: تَدبُّرَ القُرآنِ، وتَلقِّيَ نعمةِ اللهِ بالقَبولِ، ومعرفةَ حالِ الرَّسولِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكمالِ صدقِه وأمانتِه، وأنَّه لا يسألُهم عليه أجْرًا، وإنَّما سعيُه لنفعِهم ومصلحتِهم، وأنَّ الَّذي يَدْعوهم إليه صِراطٌ مُستقيمٌ، سَهْلٌ على العاملينَ لِاستقامَتِه، مُوصِلٌ إلى المقصودِ مِن قُربٍ، حَنيفيَّةٌ سَمْحةٌ؛ حَنيفيَّةٌ في التَّوحيدِ، سَمْحةٌ في العمَلِ، فدَعوتُك إيَّاهم إلى الصِّراطِ المُستقيمِ مُوجِبٌ لمَن يُرِيدُ الحقَّ أنْ يَتَّبِعَك؛ لأنَّه ممَّا تَشهَدُ العُقولُ والفِطَرُ بحُسْنِه، ومُوافقَتِه للمصالِحِ، فأين يَذْهَبون إنْ لم يُتابِعوك ؟!
2- اللهُ تعالى يَبْتلي عبْدَه؛ لِيَسمَعَ شَكواهُ وتَضرُّعَه ودُعاءَه، وقد ذَمَّ سُبحانَه مَن لم يَتضرَّعْ إليه ولم يَستكِنْ له وقْتَ البلاءِ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، والعبْدُ أضعَفُ مِن أنْ يَتجلَّدَ على رَبِّه، والرَّبُّ تعالى لم يُرِدْ مِن عَبْدِه أنْ يَتجلَّدَ عليه، بلْ أراد منه أنْ يَستكينَ له ويَتضرَّعَ إليه، وهو تَعالى يَمقُتُ مَن يَشْكوهُ إلى خلْقِه، ويُحِبُّ مَن يَشْكُو ما به إليه. وقيلَ لِبَعضِهم: كيف تَشْتَكي إليه ما ليس يَخْفَى عليه؟ فقال: ربِّي يَرْضَى ذُلَّ العبْدِ إليه .
3- المُؤمِنُ مَن يَستكينُ قَلْبُه لِرَبِّه، ويَخشَعُ له ويَتواضَعُ، ويُظهِرُ مَسْكنَتَه وفاقَتَه إليه في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ؛ أمَّا في حالةِ الرَّخاءِ: فإظهارُ الشُّكرِ، وأمَّا في حالِ الشِّدَّةِ: فإظهارُ الذُّلِّ والعُبوديَّةِ، والفاقةِ والحاجةِ إلى كشْفِ الضُّرِّ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ؛ فذَمَّ مَن لا يَستكينُ لِرَبِّه عِندَ الشِّدَّةِ، وكان النَّبيُّ يَخرُجُ عندَ الاستِسقاءِ مُتواضِعًا مُتخشِّعًا مُتمسْكِنًا .
الفوائد العلمية واللطائف:
قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ هذا تَعذيبٌ لهم في الدُّنيا؛ لِيَتضرَّعوا إليه ولِيَتُوبوا، وذَكَر سُبحانَه هنا أنَّه أخَذَهم بالعذابِ، ولم يقُلْ: بالذُّنوبِ؛ كأنَّه -واللهُ أعلَمُ- ضمَّنَ ذلك معنَى: جذَبْناهم إلينا؛ لِيُنِيبوا ولِيَتوبوا، ويَسْتَكينوا ويَتضرَّعوا، وإذا قال: فأخَذَهم اللهُ بذنوبِهم، يكونُ قد أهلَكَهم، فأخَذَهم إليه بالإهلاكِ .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- فيه تَعريضٌ بالَّذين اعْتَقَدوا خِلافَ ذلك. والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) واللَّامِ في لَتَدْعُوهُمْ باعتِبارِ أنَّه مَسوقٌ للتَّعريضِ بالمُنكِرينَ على ما دَعاهم إليه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذلك التَّوكيدُ في قولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ .
2- قولُه تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وُصِفُوا بذلك؛ تَشنيعًا لهم بما هُم عليهِ مِن الانهماكِ في الدُّنيا، وزَعْمِهم أنْ لا حياةَ إلَّا الحياةُ الدُّنيا، وإشعارًا بعِلَّةِ الحُكمِ؛ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخَوفَ ما فيها مِن الدَّواهي مِن أَقْوى الدَّواعي إلى طَلبِ الحقِّ وسُلوكِ سَبيلِه .
- والتَّعريفُ في الصِّرَاطِ للجِنْسِ، أي: هم ناكِبونَ عن الصِّراطِ مِن حيثُ هو؛ حيث لم يَتطلَّبوا طَريقَ نَجاةٍ، فهم ناكِبونَ عنِ الطَّريقِ، بَلْهَ الطَّريقَ المُستقيمَ؛ ولذلك لم يكُنِ التَّعريفُ في قولِه: عَنِ الصِّرَاطِ للعهْدِ بالصِّراطِ المذكورِ؛ لأنَّ تَعريفَ الجِنْسِ أتَمُّ في نِسْبَتِهم إلى الضَّلالِ؛ بقَرينةِ أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ الَّتي هي غايةُ العامِلِ مِن عمَلِه، فهُم إذَنْ ناكِبونَ عن كلِّ صِراطٍ مُوصِّلٍ؛ إذ لا هِمَّةَ لهم في الوُصولِ .
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ على أنَّ معنَى الآيةِ: إنَّ هؤلاء -وَصِفَتُهم أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ- لَناكِبُونَ؛ ففيه: إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ حيث عَدَلَ عن أنْ يَقولَ: (وإنَّهم عن الصِّراطِ لناكِبون)؛ لِيُؤْذِنَ بأنَّ مُنكِرَ الحَشرِ ناكبٌ عن الصِّراطِ المُستقيمِ الَّذي هو دِينُ الإسلامِ، وأنَّ مَبْنى دِينِ الإسلامِ على الإيمانِ باليومِ الآخِرِ. أو المعنى: أنَّ كلَّ مَن لا يُؤمِنُ بالآخِرةِ فهو عن القَصدِ ناكِبٌ؛ فعلى هذا لا يكونُ مِن إقامةِ المُظهَرِ مُقامَ المُضْمرِ، بلِ الجُملةُ تَذييلٌ؛ فيَدخُلُ هؤلاء دُخولًا أوَّلِيًّا في هذا المقامِ .
3- قولُه تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
- قولُه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ (لو) هنا داخِلةٌ على الفِعْلِ الماضي المُرادِ منه الاستِقبالُ بقَرينةِ المَقامِ؛ إذ المَقامُ للإنذارِ والتَّأييسِ مِن الإغاثةِ عندَ نُزولِ العذابِ الموعودِ به، وليس مَقامَ اعتذارٍ مِن اللهِ عن عدَمِ استجابَتِه لهم، أو عن إمساكِ رَحمَتِه عنهم؛ لِظُهورِ أنَّ ذلك لا يُناسِبُ مَقامَ الوعيدِ والتَّهديدِ .
4- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ استئنافٌ مَسوقٌ للاستشهادِ على مَضمونِ الشَّرطيَّةِ في قولِه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. واللَّامُ في (لَقَدْ) جَوابُ قَسمٍ مَحذوفٍ، أي: وباللهِ لقد أخَذْناهُم بالعذابِ .
- قولُه: وَمَا يَتَضَرَّعُونَ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قَبلَه، أي: وليس مِن عادَتِهم التَّضرُّعُ إليه تعالى . أو هو مَعطوفٌ على اسْتَكَانُوا، ولمْ تُراعَ المُوافَقةُ بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه في كَونِهما ماضيينِ أو مُضارعينِ؛ وذلك لأنَّ اسْتَكَانُوا على ظاهِرِه؛ لأنَّه مُرتَّبٌ على قولِه: أَخَذْنَاهُمْ، وأمَّا يَتَضَرَّعُونَ فعُدولٌ عنِ الظَّاهرِ؛ لِتَوخِّي الاستمرارِ على عدَمِ التَّضرُّعِ والدَّوامِ عليه .
- وقولُه: فِي طُغْيَانِهِمْ مُتعلِّقٌ بـ يَعْمَهُونَ، قُدِّمَ عليه؛ للاهتِمامِ بذِكْرِه، ولرِعايةِ الفاصلةِ .
5- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
- فَتْحُ البابِ في قولِه: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا فيه تَمثيلٌ لِمُفاجأَتِهم بالعذابِ بَعدَ أنْ كان مَحْجوزًا عنه؛ شُبِّهَت هَيئةُ إصابَتِهم بالعذابِ بَعدَ أنْ كانوا في سَلامةٍ وعافيةٍ بهَيئةِ ناسٍ في بَيتٍ مُغلَقٍ عليهم، ففُتِحَ عليهم بابُ البيتِ مِن عَدُوٍّ مَكروهٍ. أو شُبِّهَت هَيئةُ تَسليطِ العذابِ عليهم بهَيئةِ بابٍ اختُزِنَ فيه العَذابُ، فلمَّا فُتِحَ البابُ انهالَ العَذابُ عليهم .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث وُصِفَ البابُ هنا بكونِه ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ دونَ أنْ يُضافَ (باب) إلى (عذاب)، فيُقالُ: (بابَ عذابٍ)، كما قال تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [الفجر: 13] ؛ لأنَّ ذَا عَذَابٍ يُفِيدُ مِن شِدَّةِ انتِسابِ العذابِ إلى البابِ ما لا تُفِيدُه إضافةُ (بابٍ) إلى (عذابٍ)، ولِيتأتَّى بذلك وَصْفُ (عذاب) بـ شَدِيدٍ، بخِلافِ قولِه: سَوْطَ عَذَابٍ؛ فقدِ اسْتُغْنِيَ عن وَصْفِه بـ (شديد) بأنَّه مَعمولٌ لفِعْلِ (صَبَّ) الدَّالِّ على الوَفرةِ
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (78-83)
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
غريب الكلمات:
ذَرَأَكُمْ: أي: أنشَأَكُم، وبثَّكُم، وخلَقَكُم، وأصْلُ (ذرأ): كالشَّيءِ يُبذَرُ ويُزرَعُ .
أَسَاطِيرُ: الأساطيرُ: الأباطيلُ والتُّرَّهاتُ، جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ .
المعنى الإجمالي:
يمتنُّ اللهُ تعالى على عبادِه بأنَّه هو الَّذي أنشَأَ لهم السَّمعَ الذي به يسمعونَ، والأبصارَ التي بها يبصرونَ، والقلوبَ التي بها يعقلونَ، لكِنَّهم لا يشْكُرونَ اللهَ إلَّا شُكرًا قَليلًا.
ويخبرُ أيضًا أنَّه هو الَّذي خلَقَهم وبثَّهم في الأرضِ، وإليه وَحْدَه يُجمَعونَ يومَ القيامةِ للحِسابِ، وأنَّه هو وحْدَه الَّذي يُحيي ويُميتُ، وله اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، فهما يتعاقبانِ بقدرتِه؛ أفليس لهم عقولٌ يُدركونَ بها ذلك؟!
لكِنْ هؤلاء الكفَّارُ لا يعقِلونَ تلك الأدلَّةَ، بل أنكَروا البَعثَ، فقالوا مِثلَ ما قال أسْلافُهم المنكِرونَ له؛ قالوا: إذا مِتْنا وصِرْنا ترابًا وعظامًا في قبورِنا هل نُبعثُ بعد ذلك؟! هذا لا يكونُ أبدًا، لقد وُعِدَ آباؤُنا بمِثْلِ هذا مِن قَبْلُ، كما وُعِدْنا نحنُ به الآنَ، لكن لم نَرَ لهذا الوعدِ حقيقةً، ما هذا البعثُ الذي وُعِدنا به إلَّا أكاذيبُ الأوَّلينَ ورواياتُهم المختلقةُ الَّتي سَطَّروها مِنْ عندِ أنفُسِهم في كتُبِهم!
تفسير الآيات:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
بعدَ أنْ ذكَر سبحانَه إعراضَ المشركينَ عن سماعِ الأدلَّةِ، ورؤيةِ العِبَرِ والتأمُّلِ فى الحقائقِ- أردفَ ذلك الامتِنانَ على عبادِه بأنَّه قد أعطاهم الحواسَّ؛ مِن السمعِ والبصرِ وغيرِهما، ووفَّقهم لاستعمالِها، وكان مِن حقِّهم أن يَسْتفيدوا بها؛ لِيَستبينَ لهم الرُّشدُ مِن الغَيِّ، لكنَّها لم تُغْنِ عنهم شيئًا، فكأنَّهم فقَدوها، كما قال: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ [الأحقاف: 26] .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الَّذي أوجَدَ لكم السَّمعَ الَّذي تَسمَعونَ به، والأبصارَ الَّتي تُبصِرونَ بها، والقُلوبَ الَّتي تَعقِلونَ بها، فتَنتَفِعونَ بها في مَصالحِ دِينِكم ودُنياكم .
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
أي: لا تَشْكُرونَ اللهَ إلَّا شُكرًا قَليلًا على ما أنْعَمَ به عليكم .
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79).
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ.
أي: واللهُ هو الَّذي خلَقَكم وبثَّكُم -أيُّها النَّاسُ- بالتَّناسُلِ في سائِرِ جِهاتِ الأرضِ، على اخْتِلافِ أجناسِكم وصِفاتِكم ولُغاتِكم .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه تُجمَعونَ يومَ القِيامةِ، فيُحْييكم بَعْدَ مَوتِكم لِيُحاسِبَكم ويُجازِيَكم بما عَمِلتُم مِن خَيرٍ وشَرٍّ .
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80).
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: واللهُ وَحْدَه الَّذي يُحْيي خَلْقَه بنَفخِ الرُّوحِ فيهم، وهو يُمِيتُهم بَعدَ أنْ أحْياهم .
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن الإحياءِ خَلقُ الإيقاظِ، ومِن الإماتةِ خَلقُ النَّومِ،كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] الآيةَ؛ عَطَف على ذلك أنَّ بقُدرتِه اختِلافَ اللَّيلِ والنَّهارِ؛ لتِلك المُناسَبةِ .
وأيضًا لَمَّا كانت حَقيقةُ البَعثِ إيجادَ الشَّيءِ كما هو بَعْدَ إعْدامِه؛ ذَكَّرَهم بأمْرٍ طالَمَا لابَسوهُ وعالَجوهُ ومارسوهُ، فقال :
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: وللهِ وَحْدَه اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، فهو الذي جعَلَهما يَتناوبانِ ويتعاقبان بقُدرتِه سُبحانَه، فيَذهبُ باللَّيلِ، ويأْتي بالنَّهارِ، ثُمَّ يَذهبُ بالنَّهارِ، ويَأْتي باللَّيلِ .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 6] .
وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: أفليسَتْ لكم عُقولٌ تُدرِكونَ بها أنَّ الَّذي خلَقَ لكم السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ، وذرَأَكم في الأرضِ، ويُحْيي ويُمِيتُ، وله اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ -هو المُستحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَرِيكَ له، وأنَّه القادِرُ على بَعْثِكم بَعدَ مَوتِكم ؟!
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أوضَحَ اللهُ سُبحانَه القولَ في دَلائلِ التَّوحيدِ؛ عقَّبَه بذِكْرِ المَعادِ، فقال: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ في إنْكارِ البَعثِ مع وُضوحِ الدَّلائلِ .
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81).
أي: هم لا يَعقِلونَ تلك الأدِلَّةَ والحُجَجَ، ولا يَعتَبِرونَ بها، ولكنَّهم يقولونَ بإنكارِ البَعثِ بَعدَ الموتِ، كما قال أسلافُهم المُكذِّبون به !
قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82).
أي: قالوا: أإذا مِتْنا وصِرْنا تُرابًا وعِظامًا في قُبورِنا، أإنَّا لَمُعادونَ بَعدَ ذلك أحياءً؟! ذلك أمْرٌ لا يُعقَلُ، ولا يكونُ أبدًا !
كما قال تعالى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 47-48] .
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) .
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ.
أي: لقد سبَقَ أنْ وُعِدَ آباؤُنا مِن قَبْلِنا بالبَعثِ، كما وُعِدْنا نحنُ به، ولم نَرَ له حَقيقةً .
إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
أي: ما هذا البَعثُ الَّذي وُعِدْنا به إلَّا أخبارٌ باطِلةٌ، وقَصَصٌ وأحاديثُ خُرافيَّةٌ، ورِواياتٌ مُخْتَلَقةٌ لا صِحَّةَ لها، سطَّرَها الأوَّلونَ في كُتُبِهم؛ بقَصدِ المُسامَرةِ والتَّلهِّي بها .
الفوائد التربوية:
1- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فذَكَر أنَّه قد جعَلَ لهم ما يُدرِكونَ به المسموعاتِ والمُبصَراتِ والمعقولاتِ؛ إيضاحًا للحُجَّةِ، وقَطعًا للمَعذِرةِ، وذمًّا لهم على عدَمِ شُكرِ نِعَمِ اللهِ؛ ولهذا قال: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فيه ثلاثةُ مَعانٍ: أحدُها: إظهارُ النِّعمةِ. وثانيها: مُطالَبةُ العبادِ بالشُّكرِ عليها. وثالِثُها:الإخبار أنَّ الشَّاكِرَ قَليلٌ ، والشُّكرُ هو القيامُ بطاعةِ المُنعِمِ إقرارًا بالقَلبِ، واعترافًا باللِّسانِ، وعَمَلًا بالأركانِ، فيَعتَرِفُ بقَلبِه أنَّها مِن اللهِ، كذلك أيضًا يتحَدَّثُ بها بلِسانِه اعترافًا لا افتِخارًا، وكذلك أيضًا يقومُ بطاعةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بجَوارِحِه؛ وبهذه الأركانِ الثَّلاثةِ يكونُ الشُّكرُ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ فيه تَنبيهٌ على أنَّ مَن لم يُعمِلْ هذه الأعضاءَ فيما خلَقَهُ اللهُ تعالى، وتدبَّرَ ما أودعَه فيها مِن الدَّلائلِ على وَحدانيَّتِه وباهِرِ قُدرتِه: فهو كعادِمِ هذه الأعضاءِ .
2- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ هذه الأعضاءُ الثَّلاثةُ هي أمَّهاتُ ما يُنالُ به العِلمُ ويُدرَكُ، أعني العِلمَ الذي يمتازُ به البَشَرُ عن سائِرِ الحيواناتِ دونَ ما يُشارِكُها فيه مِنَ الشَّمِّ والذَّوقِ واللَّمسِ، وهنا يُدرِكُ به ما يُحِبُّ ويَكرَهُ، وما يمَيِّزُ به بينَ مَن يُحسِنُ إليه ومَن يُسيءُ إليه، إلى غيرِ ذلك؛ قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، وقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] ، وقال: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] ، وقال: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً [الأحقاف: 26] ، وقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] ، وقال فيما لكُلِّ عُضوٍ مِن هذه الأعضاءِ مِن العَمَلِ والقُوَّةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179] .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
- هذا رُجوعٌ إلى غرَضِ الاستدلالِ على انفِرادِ اللهِ تَعالى بصِفاتِ الإلهيَّةِ، والامتنانِ بما منَحَ النَّاسَ مِن نِعمةٍ؛ لعلَّهم يَشكُرون بتَخصيصِه بالعِبادةِ، وذلك قدِ انتقَلَ عنه مِن قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فانتقَلَ إلى الاعتبارِ بآيةِ فُلكِ نُوحٍ عليه السَّلامُ، فأتْبَعَ بالاعتبارِ بقَصصِ أقوامِ الرُّسلِ عقِبَ قولِه تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فالجُملةُ إمَّا مَعطوفةٌ على جُملةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [المؤمنون: 21] ، والغرَضُ واحدٌ، وما بيْنَهما انتقالاتٌ، وإمَّا مُستأْنَفةٌ؛ رُجوعًا إلى غرَضِ الاستدلالِ والامتِنانِ. وفي هذا الانتِقالِ مِن أُسلوبٍ إلى أُسلوبٍ، ثمَّ الرُّجوعِ إلى الغرَضِ: تَجديدٌ لِنَشاطِ الذِّهنِ، وتَحريكٌ للإصغاءِ إلى الكلامِ .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ خَصَّ السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّه يَتعلَّقُ بها مِن المنافِعِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ ما لا يَتعلَّقُ بغَيرِها؛ مِن إعمالِ السَّمعِ والبصَرِ في آياتِ اللهِ، والاستِدلالِ بفِكْرِ القَلْبِ على وَحدانيَّةِ اللهِ وصِفاتِه .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ ... لَمَّا عَبَدوا غيرَه نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن جَهِلَ أنَّه الَّذي أنشَأَ لهم السَّمعَ، فأتَى لهم بكَلامٍ مُفيدٍ لقَصرِ القَلبِ أو الإفرادِ، أي: اللهُ الَّذي أنشَأَ ذلك دونَ أصنامِكم. والخِطابُ للمُشرِكين على طَريقةِ الالْتِفاتِ، أو لجَميعِ النَّاسِ، أو للمُسلِمينَ، والمقصودُ منه التَّعريضُ بالمُشرِكين .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ جمَعَ الأبصارَ والأفئدةَ باعتبارِ تَعدُّدِ أصحابِها. وأمَّا إفرادُ السَّمعِ: فجَرَى على الأصْلِ في إفرادِ المصدرِ؛ لأنَّ أصلَ السَّمعِ أنَّه مَصدرٌ. وقيل: الجَمعُ باعتبارِ المُتعلِّقاتِ؛ فلمَّا كان البصرُ يَتعلَّقُ بأنواعٍ كثيرةٍ مِن المَوجوداتِ، وكانت العُقولُ تُدرِكُ أجناسًا وأنواعًا؛ جُمِعَا بهذا الاعتبارِ، وأُفْرِدَ السَّمعُ؛ لأنَّه لا يَتعلَّقُ إلَّا بنَوعٍ واحدٍ، وهو الأصواتُ . وقيل: لعلَّهَ جمَعَ الأبصارَ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ فيها أكثَرُ مِنَ التَّفاوُتِ في السَّمعِ، وجمَعَ (فُؤاد) -وهو القَلْبُ-؛ لِتَوقُّدِه وتَحرُّقِه، مِنَ (التَّفؤُّدِ) وهو التَّحرُّقُ، ولعلَّهَ جمَعَ الأبصارَ كذلك؛ لاحتِمالِها للبصيرةِ .
- و(ما) في قولِه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ صِلةٌ؛ للتَّأكيدِ .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيه مِن مُحسِّناتِ البَلاغةِ: الطِّباقُ؛ حيثُ قُوبِلَ الذَّرْءُ بضِدِّهِ، وهو الحَشرُ والجَمعُ؛ فإنَّ الحشرَ يَجمَعُ كلَّ مَن كان على الأرضِ مِن البشَرِ، والمقصودُ مِن هذه المُقابَلةِ الرَّدُّ على مُنكِري البَعثِ؛ فتَقديمُ المجرورِ في (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تَعريضٌ بالتَّهديدِ بأنَّهم مَحشورونَ إلى اللهِ، فهو يُجازِيهم .
- وتقديمُ المعمولِ في وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للاهتِمامِ، والرِّعايةِ على الفاصلةِ .
3- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أعقَبَ ذِكْرَ الحَشرِ بذِكْرِ الإحياءِ؛ لأنَّ البعثَ إحياءٌ؛ إدْماجًا للاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ في الاستِدلالِ على عُمومِ التَّصرُّفِ في العالَمِ. وأمَّا ذِكْرُ الإماتةِ فلِمُناسَبةِ التَّضادِّ، ولأنَّ فيها دَلالةً على عَظيمِ القُدرةِ والقَهرِ .
- قولُه: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فيه تَقديمُ المجرورِ؛ للقَصرِ، أي: له اختلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ لا لغَيرِه، أي: فغَيرُه لا تَحِقُّ له الإلهيَّةُ .
- قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استِفهامٌ إنكاريٌّ، وهذا تَذييلٌ راجِعٌ إلى قولِه: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وما بَعْدَه .
4- قوله تعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ هذا إدْماجٌ لذِكْرِ أصْلٍ آخَرَ مِن أُصولِ الشِّركِ، وهو إحالةُ البَعثِ بَعدَ الموتِ .
- قولُه: بَلْ قَالُوا عَطْفٌ على مُضْمَرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي: فلَمْ يَعقِلُوا، بلْ قالُوا؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ . وقيل: بَلْ للإضرابِ الإبطاليِّ؛ إبطالًا لكونِهم يَعقلونَ، وإثباتًا لإنكارِهم البَعْثَ مع بَيانِ ما بَعثَهم على إنكارِه، وهو تقليدُ الآباءِ .
- وفي قولِه: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ الْتِفاتٌ من الخِطابِ في أَفَلَا تَعْقِلُونَ إلى الغَيبةِ بَلْ قَالُوا؛ لأنَّ الكلامَ انتقَلَ مِن التَّقريعِ والتَّهديدِ إلى حِكايةِ ضَلالِهم؛ فناسَبَ هذا الانتقالَ مَقامُ الغَيبةِ؛ لِمَا في الغَيبةِ مِن الإبعادِ ؛ وللإيذانِ بالغضَبِ .
5- قولُه تعالى: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تَفسيرٌ لِمَا قَبلَه مِن المُبْهَمِ، وتَفصيلٌ لِمَا فيه مِن الإجمالِ . وفيه الجَمعُ بيْن ذِكْرِ الموتِ والكونِ تُرابًا وعِظامًا؛ لقَصدِ تَقْويةِ الإنكارِ بتَفظيعِ إخبارِ القُرآنِ بوُقوعِ البَعثِ .
- وجُملةُ: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا إلخ، بدَلٌ مُطابِقٌ مِن جُملةِ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ؛ تَفصيلٌ لإجمالِ المُماثَلةِ. ويجوزُ جَعْلُ قَالُوا الثَّاني استِئنافًا بَيانيًّا لِبَيانِ ما قال الأوَّلونَ، والمعنى واحدٌ على التَّقديرينِ. وعلى كِلَا الوَجْهينِ: فإعادةُ فِعْلِ (قالوا) مِن قَبِيلِ إعادةِ الَّذي عَمِلَ في المُبدَلِ منه. ونُكْتَتُه هنا: التَّعجُّبُ مِن هذا القولِ .
- قولُه: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ الاستِفهامُ إنكاريٌّ، مفيدٌ لكمالِ الاستِبعادِ والاستِنكارِ للبعثِ بعدَ ما آل الحالُ إلى هذا المآلِ .
- وذِكْرُ حَرفِ (إنَّ) في قولِهم: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ المقصودُ منه: حِكايةُ دَعوى البَعثِ بأنَّ الرَّسولَ الَّذي يَدَّعيها بتَحقيقٍ وتَوكيدٍ مع كَونِها شَديدةَ الاستِحالةِ؛ ففي حِكايةِ تَوكيدِ مُدَّعِيها زِيادةٌ في تَفظيعِ الدَّعوى في وَهْمِهم .
6- قولُه تعالى: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ تَعليلٌ للإنكارِ، وتَقويةٌ له . ووَجْهُ ذِكْرِ الآباءِ: دَفْعُ ما عسَى أنْ يَقولَ لهم قائلٌ: إنَّكم تُبْعَثون قبْلَ أنْ تَصِيروا تُرابًا وعِظامًا، فأعَدُّوا الجوابَ بأنَّ الوعْدَ بالبَعثِ لم يكُنْ مُقتصِرًا عليهم، فيَقَعوا في شَكٍّ باحتِمالِ وُقوعِه بهم بَعدَ مَوتِهم وقبْلَ فَناءِ أجسامِهم، بلْ ذلك وَعدٌ قَديمٌ وُعِدَ به آباؤُهم الأوَّلونَ، وقد مضَتْ أزمانٌ، وشُوهِدَتْ رُفاتُهم في أجْداثِهم، وما بُعِثَ أحدٌ منهم .
- وجُملةُ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِن القولِ الأوَّلِ، مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لجوابِ سُؤالٍ يُثيرُه قولُهم: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ؛ وهو أنْ يقولَ سائلٌ: فكيفَ تمالَأَ على هذه الدَّعوى العدَدُ مِن الدُّعاةِ في عُصورٍ مُختلفةٍ مع تَحقُّقِهم عدَمَ وُقوعِه؟ فيُجيبون بأنَّ هذا الشَّيءَ تَلقَّفوهُ عن بَعضِ الأوَّلينَ، فتَناقَلُوه .
- والقَصرُ في قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَصرٌ إضافيٌّ ، لا يَعْدو كَونَه مِن الأساطيرِ إلى كَونِه واقعًا كما زعَمَ المُدَّعون .
- وفي قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ عُدولٌ عن الإضمارِ إلى اسمِ الإشارةِ، حيثُ لم يقُلْ: (إنَّه)؛ لقَصدِ زِيادةِ تَمييزِه؛ تَشهيرًا بخَطَئِه في زَعْمِهم .
- وفي الآياتِ الثَّلاثةِ السَّابقةِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقال في سُورةِ (النَّملِ): وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النمل: 67- 68] ؛ فهنا في سُورةِ (المُؤمِنون) قُدِّمَ تَوكيدُ المُضْمَرِ المرفوعِ بـ نَحْنُ وأُخِّرَ المفعولُ، وهو هَذَا، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ (النَّملِ)؛ لأنَّه لمَّا كان مَحَطُّ العِنايةِ في هذه السُّورةِ الخلْقَ والإيجادَ والتَّهديدَ لأهْلِ العِنادِ، حكى عنهم أنَّهم قالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا مُقدِّمًا قولَهم: نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا على قولِهم: هَذَا، أي: البعثَ مِن قَبْلُ، بخِلافِ (النَّملِ): فإنَّ محَطَّ العِنايةِ فيها الإيمانُ بالآخرةِ؛ فلذلك قُدِّمَ قولُه: هَذَا، والمُرادُ وَعْدُ آبائِهم على ألْسِنَةِ مَن أتاهُم مِن الرُّسلِ، غيرَ أنَّ الإخبارَ بشُمولِه جَعَلَه وعْدًا للكلِّ على حَدٍّ سَواءٍ .
وقيل: لَمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (المُؤمِنون) قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 68] ، فتقدَّمَ التَّعريفُ في هذه الآيةِ أنَّ آباءَهم قد جاءتهم الرُّسلُ، وأُنْذِروا كما أُنْذِرَ هؤلاء؛ لهذا قالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 83] ، ولمَّا لم يَتقدَّمْ في آيةِ (النَّملِ) ذِكْرُ إنذارِ آبائِهم، كان أهمُّ شَيءٍ ذِكْرَ الموعودِ به الَّذي هو (هذا)، فقالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا [النمل: 68] . وقيل غيرُ ذلك .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (84-92)
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
غريب الكلمات:
مَلَكُوتُ: الملكوتُ: المُلْكُ، زِيدَتْ فيه الواوُ والتَّاءُ للمبالغةِ، وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ .
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ:أي: يمنعُ ويغيثُ مَن يشاءُ ممن يشاءُ، ولا يمنعُ منه أحدٌ؛ يُقالُ: أجرْتُ فلانًا: إذا حمْيتَه، وأجرتُ على فلانٍ: إذا حميتَ عنه، أو: يؤمِّنُ مَن أخافَه غيرُه، ومَن أخافه هو لم يؤمِّنْه أحدٌ، مِن الجوارِ بمعنَى التأمينِ .
تُسْحَرُونَ: أي: تُخْدَعونَ وتُصْرَفون، وأصلُ (سحر): يدلُّ على الخِداعِ وشِبْهِه .
المعنى الإجمالي:
يأمرُ الله نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ لِقَومِه المُشرِكينَ المكذِّبينَ بالبعثِ: لِمَن هذه الأرضُ ومَن عليها إن كنتُم تعلمونَ؟ سيقولونَ مجيببنَ: للهِ، قُلْ لهم: أفلَا تَتذكَّرونَ بأنَّ مَن خلَقَ الأرضَ ومَن فيها قادِرٌ على إحياءِ النَّاسِ بَعدَ مَوتِهم؟!
ويأمرُه أن يقولَ لهم: مَن خالقُ السَّمواتِ السَّبْعِ ومدَبِّرُها ومالِكُها، ومَن خالقُ العرشِ العَظيمِ ومدَبِّرُه ومالِكُه؟ سيَقولون: ذلك كلُّه للهِ خالقِ كُلِّ شَيءٍ، فقُلْ لهم: أفلَا تخافونَ عَذابَه؛ وغضَبَه وسخطَه؟! قلْ لهم: مَن بيَدِه مُلْكُ كُلِّ شَيءٍ، ومَن يُغِيثُ مَن يشاء مِن خَلقِه ممَّن يُريدُ به سوءًا أو ضرًّا، ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يَحْمِيَ ويَمنَعَ مَن أراد اللهُ به السوءَ والضرَّ، إنْ كنتُم تَعلمونَ ذلك؟ سيَقولونَ: كُلُّ ذلك للهِ، قُلْ لهم: إنِ اعترَفْتُم بذلك فكيف يُخَيَّلُ إليكم الباطِلُ حقًّا، وكيف تُصْرَفونَ عن الحقِّ إلى الباطِلِ؟!
ثم يقولُ تعالى: بلْ أتَيْناهم بالحَقِّ، وإنَّهم لَكاذبونَ في زعمِهم الشَّريكَ والولدَ لله، ودَعْواهم أنَّ البَعثَ غيرُ واقعٍ!
ويخبرُ تعالى أنَّه ما اتَّخذَ سبحانه وتعالى لنَفْسِه ولدًا كما يَزعُمُ النصارى وغيرُهم، ولم يكُنْ معه مِن إلهٍ آخَرَ، فلو كان معه آلهةٌ أخرَى لانفَرَد كلُّ إلهٍ بما خلَقَ، ولأرادَ كلُّ إلهٍ أن يعلوَ على الآخَرِ ويقهرَه، مما يستحيلُ معه أن ينتظمَ أمرُ هذا الكونِ. تَنزَّهَ اللهُ سُبحانَه وتعالى وتقدَّس عمَّا يَصِفُه به هؤلاء المشركونَ، هو وَحْدَه العليمُ بما غاب عن خَلقِه وما شاهَدوهُ، فتَنزَّهَ اللهُ وتقَدَّس عن شركِ المشركينَ، وتعالى عمَّا يصفونَه به من العيوبِ والنقائضِ.
تفسير الآيات:
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا اتَّخَذَ المُشرِكون مِن دُونِ اللهِ تعالى آلهةً، ونَسَبوا إليه الولَدَ، نبَّهَهم على فَرْطِ جَهْلِهم بكَونِهم يُقِرُّون بأنَّه تعالى له الأرضُ ومَن فيها مِلْكٌ، وأنَّه رَبُّ العالَمِ العُلويِّ، وأنَّه مالِكُ كلِّ شَيءٍ، وهم مع ذلك يَنْسُبون له الولَدَ، ويتَّخِذونَ له شُركاءَ !
وأيضًا لَمَّا أنكَرَ المُشرِكونَ البَعثَ هذا الإنكارَ المُؤكَّدَ، ونَفَوهُ هذا النَّفيَ المُحتَّمَ؛ أمَرَهُ أنْ يُقرِّرَهم بأشياءَ هُمْ بها مُقِرُّون، ولها عارِفونَ، يَلْزَمُهم مِن تَسليمِها الإقرارُ بالبعثِ قطْعًا، فقال :
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِقَومِك المُشرِكينَ المُكذِّبينَ بالبَعثِ: لِمَن مُلْكُ الأرضِ ومَن فيها مِن الخلْقِ، إنْ كنتُم تَعلَمونَ مَن هو مالِكُ ذلك وخالِقُه ؟
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85).
أي: سيقولُ المُشرِكونَ: الأرضُ ومَن فيها للهِ، فقُلْ لهم حينَ يُجِيبونَك بذلك: أفلَا تتأمَّلونَ وتتفَكَّرونَ، فتَتذَكَّرونَ ما هو مَعلومٌ عندَكم، ومُستَقِرٌّ في فِطَرِكم؛ مِن أنَّ الَّذي قدَرَ على خلْقِ ذلك كُلِّه هو المُستحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه، فتُخلِصونَ له، وتَعلَمونَ قُدْرتَه على بَعثِ خَلقِه أحياءً يومَ القيامةِ ؟!
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لمَّا ذكَّرَهم اللهُ تعالى بالعالَمِ السُّفليِّ لِقُرْبِه؛ تلاهُ بالعُلويِّ؛ لأنَّه أعظَمُ، فقال على ذلك المِنوالِ مُرَقِّيًا لهم إليه :
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لقَومِك: مَن خالِقُ السَّمواتِ السَّبْعِ ومالِكُها ومدَبِّرُها، ومَن خالِقُ العرشِ الكبيرِ الواسِعِ المُحيطِ بجَميعِ المخلوقاتِ ومالِكُه ومدَبِّرُه ؟
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87).
أي: سيَقولُ المُشرِكونَ: ذلك كلُّه للهِ؛ فالسَّمواتُ السَّبْعُ والعَرشُ العظيمُ مِلكٌ للهِ وَحْدَه، فقُلْ لهم حينَ يُجِيبونك بذلك: أفلَا تتَّقونَ سَخَطَ اللهِ وغضَبَه وعذابَه، والحالُ أنَّه كامِلُ القُدرةِ، عظيمُ السُّلطانِ، فتَتوبونَ مِن شِرْكِكم به، ووَصْفِكم له بما لا يَلِيقُ به سُبحانَه، وتَكذيبِكم رسولَه ؟!
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّرَهم بالعالَمَينِ: العُلويِّ والسُّفليِّ، أمَرَهُ بأنْ يُقرِّرَهم بما هو أعَمُّ منهما وأعظَمُ، فقال :
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك المُشرِكينَ: مَنِ الَّذي بيَدِه مُلكُ كلِّ شَيءٍ في السَّمواتِ والأرضِ، المُتصرِّفُ فيه بقُدرتِه ومَشيئتِه ؟
كما قال تعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود: 56] .
وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: وهو الَّذي يَمنَعُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِه ممَّن يُرِيدُ به السُّوءَ والضُرَّ، ولا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يَمنَعَ السُّوءَ والضُّرَّ عن أحدٍ إذا شاء اللهُ به ذلك، إنْ كنتُم تَعلمونَ عظَمةَ اللهِ، وأنَّه قادِرٌ على كلِّ شَيءٍ، وبِيَدِه مَلكوتُ كُلِّ شَيءٍ ؟
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89).
أي: سيقولُ المُشرِكون: ذلك كُلُّه للهِ؛ فالمالِكُ لكُلِّ شَيءٍ الَّذي يُجِيرُ ولا يُجارُ عليه هو اللهُ، وهو المُختَصُّ بذلك وَحْدَه، فقُلْ لهم حين يُجيبونَك بذلك: فكيف يُخَيَّلُ إليكم الباطِلُ حقًّا، فتُخْدَعونَ وتُصْرَفونَ عن اتِّباعِ الحَقِّ، وتَذهَبُ عُقولُكم مع ظُهورِه؛ فلا تُوحِّدونَه سُبحانَه في عِبادتِه، ولا تُؤمِنونَ بقُدرتِه على بَعثِكم أحياءً بَعدَ مَوتِكم ؟!
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31، 32].
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90).
أي: بلْ أتَيْناهم بالحقِّ ، وإنَّ المُشرِكينَ لَكاذِبونَ في دَعْواهم الشَّريكَ والولَدَ للهِ سُبحانَه، ونَفْيِهم البَعثَ .
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أثبَتَ لِنفْسِه الإلهيَّةَ بالدَّلائلِ الإلزاميَّةِ في الآياتِ المُتقدِّمةِ، نفَى عنْ نفْسِه الأندادَ والأضْدادَ بقولِه :
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ.
أي: ما اتَّخَذ اللهُ لنَفْسِه -تعالى- ولدًا كما يَزْعُمُ النَّصارى ومُشرِكو العَرَبِ وغَيرُهم .
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ.
أي: ولم يكُنْ مع اللهِ شَريكٌ يَستَحِقُّ أنْ يُعبَدَ معه .
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.
أي: لو كان مع اللهِ آلهةٌ أُخرى، لَاعتزَلَ كلُّ إلهٍ بما يَخْلُقُ وانفرَدَ بتَدبيرِه؛ فلا تَنتَظِمُ شُؤونُ الكونِ .
كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء: 22].
وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
أي: ولَطلَبَ كلُّ إلهٍ أنْ يعلُوَ على غَيرِه مِن الآلهةِ ويَقهَرَه، فيَغلِبُ القوِيُّ منهم الضَّعيفَ، ومع هذا التَّمانُعِ والتَّصارُعِ بيْنَ الآلهةِ لا يُمكِنُ وُجودُ العالَمِ، ولا يُمكِنُ أنْ ينتَظِمَ هذا الانتِظامَ العَجيبَ المُتَّسِقَ .
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
مُناسبَتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا طابَقَ الدَّليلُ الإلزامَ على نَفْيِ الشَّريكِ؛ نزَّهَ نفْسَه الشَّريفةَ بما هو نَتيجةُ ذلك بقولِه :
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
أي: تنزَّهَ اللهُ عمَّا يَصِفُه المُشرِكونَ مِن اتِّخاذِ الولَدِ، ووُجودِ الشَّريكِ .
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92).
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
أي: عالِمِ ما غابَ عن خَلقِه مِمَّا لم يُشاهِدوه، وعالِمِ ما يَرَونَه ويُشاهِدونَه؛ فلا يَخْفى عليه السِّرُّ ولا العَلانيةُ .
فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أي: فارتفَعَ اللهُ وتَنزَّهَ عن شِركِ المُشرِكينَ، وما يَصِفونَه به مِن العُيوبِ والنَّقائِصِ .
الفوائد التربوية:
1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ معناهُ التَّرغيبُ في التَّدبُرِ؛ لِيَعْلَموا بُطلانَ ما هم عليه .
2- قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، في هذه الآياتِ دَلالةٌ على جَوازِ مُحاجَّةِ الكُفَّارِ والمُبطلِينَ، وإقامةُ الحُجَّةِ عليهم، وإظهارُ إبطالِ الباطِلِ مِن قَولِهم ومَذهَبِهم، ووُجوبُ النَّظرِ في الحُجَجِ على مَن خالَفَ دِينَ اللهِ .
3- قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ في هاتينِ الآيتَينِ مِن صِفاتِ النَّفيِ: تنَزُّهُ اللهِ تعالى عن اتِّخاذِ الوَلَدِ الذي وصَفَه به الكافِرونَ، وعن الشَّريكِ له في الألوهيَّةِ الذي أشرَكَ به المُشرِكونَ، وهذا النَّفيُ لكمالِ غِناه، وكَمالِ رُبوبيَّتِه وإلهيَّتِه، ونَستفيدُ منهما مِن النَّاحيةِ المَسلكيَّةِ: أنَّ الإيمانَ بذلك يَحمِلُ الإنسانَ على الإخلاصِ لله عزَّ وجَلَّ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إلى أن قال: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فالكُفَّارُ المُشرِكونَ مُقِرُّونَ أنَّ اللهَ خالِقُ السَّمواتِ والأرضَ، وليس في جَميعِ الكُفَّارِ مَن جعَلَ للهِ شَريكًا مُساوِيًا له في ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه، هذا لم يَقُلْهُ أحدٌ قطُّ؛ لا مِن المَجوسِ الثَّنويَّةِ ، ولا مِن أهْلِ التَّثليثِ، ولا مِن الصَّابئةِ المُشركينَ الَّذين يَعْبُدون الكواكِبَ والملائكةَ، ولا مِن عُبَّادِ الأنبياءِ والصَّالحينَ، ولا مِن عُبَّادِ التَّماثيلِ والقُبورِ وغَيرِهم؛ فإنَّ جَميعَ هؤلاء -وإنْ كانوا كُفَّارًا مُشركينَ مُتنوِّعينَ في الشِّرْكِ- فهم مُقِرُّونَ بالرَّبِّ الحقِّ الَّذي ليس له مِثْلٌ في ذاتِه وصِفاتِه وجَميعِ أفعالِه، ولكنَّهم مع هذا مُشرِكونَ به في أُلوهيَّتِه؛ بأنْ يَعْبُدوا معه آلهةً أُخرى يَتَّخِذونها شُفعاءَ أو شُركاءَ، أو في رُبوبيَّتِه؛ بأنْ يَجْعَلوا غيرَه ربَّ بَعضِ الكائناتِ دُونَه، مع اعترافِهم بأنَّه ربُّ ذلك الرَّبِّ، وخالِقُ ذلك الخلْقِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فيه سُؤالٌ: كيف قال: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، ثمَّ حَكَى عنهم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، وفي ذلك ما يُوهِمُ التَّعارُضَ؟
الجوابُ: لا تعارُضَ بيْنَ قولِه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وبيْنَ ما حَكَى عنهم مِن قولِهم: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ؛ لأنَّ قولَه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لا يَنْفِي عِلْمَهم بذلك، وقد يُقالُ مِثْلُ ذلك في الاحتجاجِ على وَجْهِ التَّأكيدِ لِعِلْمِهم .
3- قال الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، واتِّخاذُ الولَدِ أعَمُّ مِن نَفْيِ الولَدِ؛ فيدُلُّ باللُّزومِ على نَفْيِ الولَدِ .
4- قال الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قُدِّمَتِ النَّتيجةُ على القِياسِ؛ لِتُجْعَلَ هي المطلوبَ؛ فإنَّ النَّتيجةَ والَمطلوبَ مُتَّحِدانِ في المعنى، مُختلفانِ بالاعتبارِ؛ فهي باعتبارِ حُصولِها عقِبَ القياسِ تُسمَّى نَتيجةً، وباعتبارِ كَونِها دَعوى مُقامٌ عليها الدَّليلُ -وهو القياسُ- تُسمَّى مَطلوبًا كما في علْمِ المَنطِقِ. ولتَقْديمِها نُكتةٌ: أنَّ هذا المطلوبَ واضحُ النُّهوضِ، لا يَفتقِرُ إلى دَليلٍ إلَّا لزِيادةِ الاطمئنانِ؛ فقولُه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ هو المطلوب، وقولُه: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ إلى آخِرِ الآيةِ هو الدَّليلُ، وتَقديمُ هذا المَطلوبِ على الدَّليلِ أغْنَى عن التَّصريحِ بالنَّتيجةِ عقِبَ الدَّليلِ .
5- قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ هذا مِن أمْثِلةِ عِلْمِه سُبحانَه بالمُستحيلِ .
6- قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ذَكَر المُتكلِّمونَ هذا المعنى، وعبَّروا عنه بدليلِ التَّمانُعِ، وهو أنَّه لو فُرِضَ صانِعانِ فصاعِدًا، فأراد واحدٌ تَحريكَ جسمٍ، وأراد الآخَرُ سُكونَه؛ فإنْ لم يَحصُلْ مُرادُ كلِّ واحدٍ منهما كانا عاجزينِ، والواجِبُ لا يكونُ عاجِزًا، ويَمتنعُ اجتماعُ مُرادَيْهما؛ للتَّضادِّ، وما جاء هذا المُحالُ إلَّا مِن فرضِ التَّعدُّدِ، فيكونُ مُحالًا، فأمَّا إنْ حصَل مُرادُ أحدِهما دونَ الآخَرِ، كان الغالبُ هو الواجبَ، والآخرُ المغلوبُ مُمْكِنًا؛ لأنَّه لا يليقُ بصفةِ الواجبِ أنْ يكونَ مقهورًا .
7- قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ فتأمَّلْ هذا البرهانَ الباهرَ بهذا اللفظِ الوجيزِ البيِّنِ، فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا بدَّ أنْ يكونَ خالقًا فاعلًا، يُوصلُ إلى عابدِه النفعَ، ويدفعُ عنه الضُّرَّ، فلو كان معه سبحانَه إلهٌ لكان له خلقٌ وفِعلٌ، وحينَئذٍ فلا يرضَى بشركةِ الإلهِ الآخَرِ معه، بل إنْ قدَر على قهرِه وتفرُّدِه بالإلهيَّةِ دونَه فعَل، وإن لم يقدِرْ على ذلك انفردَ بخَلقِه، وذهَب به، كما ينفردُ ملوكُ الدُّنيا عن بعضِهم بعضًا بممالكِهم، إذا لم يقدِرِ المنفردُ على قهرِ الآخَرِ، والعلوِّ عليه؛ فلا بدَّ مِن أحدِ أمورٍ ثلاثةٍ: إمَّا أن يذهبَ كلُّ إلهٍ بخَلقِه وسلطانِه. وإمَّا أنْ يعلوَ بعضُهم على بعضٍ. وإمَّا أنْ يكونَ كلُّهم تحتَ قهرِ إلهٍ واحدٍ، ومَلِكٍ واحدٍ، يتصرَّفُ فيهم ولا يتصرَّفونَ فيه، ويمتنِعُ مِن حُكمِهم عليه ولا يمتنعونَ مِن حُكمِه عليهم، فيكون وحْدَه هو الإلهَ الحقَّ، وهم العبيدُ المربوبونَ المقهورونَ. وانتِظامُ أمرِ العالَمِ العلويِّ والسُّفليِّ، وارتباطُ بعضِه ببعضٍ، وجريانُه على نظامٍ مُحكَمٍ لا يختلفُ ولا يفسدُ؛ مِن أدلِّ دليلٍ على أنَّ مدبِّرَه واحدٌ، لا إلهَ غيرُه، كما دلَّ دليلُ التمانعِ على أنَّ خالقَه واحدٌ لا ربَّ له غيرُه، فذاك تمانعٌ في الفعلِ والإيجادِ، وهذا تمانعٌ في العبادةِ والإلهيَّةِ، فكما يستحيلُ أن يكونَ للعالَمِ ربَّانِ خالقانِ متكافئانِ؛ يستحيلُ أن يكونَ له إلهانِ معبودانِ .
8- قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ في هذه الآيةِ نفْيُ اتِّخاذِ الولدِ، ونفْيُ تعدُّدِ الآلهةِ، وتنزيهُ الله عمَّا وصَفه به المشركونَ، وهذا يتضمَّنُ معَ انتفاءِ ما ذُكِر كمالُ الله، وانفرادُه بما هو مِن خصائصِه .
9- قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ... إلى قولِه: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ في هذه الآياتِ الدَّلالةُ على أنَّ إنكارَ الحَشرِ والبعثِ: أمْرٌ عَظيمٌ، وخَطْبٌ جليلٌ، وأنَّ مُنكِرَه مُعطِّلٌ مُبطِلٌ للذَّاتِ والصِّفاتِ؛ لِتَوقُّفِ المُلْكِ -أعني: الأرضَ والسَّمواتِ، والعرشَ ومَلكوتَ كلِّ شَيءٍ- على ذلك، واستتباعِه العِلْمَ بالتَّنزيهِ والتَّوحيدِ والعِلْمِ .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ استِئنافُ استِدلالٍ عليهم في إثْباتِ الوَحدانيَّةِ للهِ تعالى. والاستفهامُ تَقريريٌّ، أي: أَجِيبوا عن هذا، والمَقصودُ: إثْباتُ لازِمِ جَوابِهم، وهو انفرادُه تعالى بالوَحدانيَّةِ . وفيه استِهانةٌ بهم، وتَقريرٌ لِفَرطِ جَهالَتِهم حتَّى جَهِلوا مِثْلَ هذا الجَلِيِّ الواضحِ، إلْزامًا بما لا يُمكِنُ لمَن له مُسكةٌ مِن العِلْمِ إنكارُه؛ ولذلك أخبَرَ عن جَوابِهم قبْلَ أنْ يُجِيبوا، فقال: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ؛ لأنَّ العقلَ الصَّريحَ قدِ اضْطَرَّهم بأدْنى نظَرٍ إلى الإِقرارِ بأنَّه خالِقُها .
- وجاء بـ (مَن) في قولِه: وَمَنْ فِيهَا؛ تَغليبًا للعُقلاءِ على غَيرِهم .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ؛ ثِقةً بدَلالةِ الاستِفهامِ عليه، والتَّقديرُ: فأَجِيبوني عن هذا السُّؤالِ . وفي هذا الشَّرطِ تَوجيهٌ لِعُقولِهم أنْ يتأمَّلوا، فيَظهَرَ لهم أنَّ الأرضَ للهِ، وأنَّ مَن فيها للهِ؛ فإنَّ كونَ جَميعِ ذلك للهِ قد يَخْفى؛ لأنَّ النَّاسَ اعتادُوا نِسبةَ المُسبَّباتِ إلى أسبابِها المُقارِنةِ، والتَّصرُّفاتِ إلى مُباشِريها، فنُبِّهوا بقولِه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إلى التَّأمُّلِ، أي: إنْ كُنْتُم تَعلمونَ عِلْمَ اليقينِ؛ ولذلك عُقِّبَ بقولِه: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، أي: يُجِيبون عقِبَ التَّأمُّلِ جَوابًا غيرَ بَطِيءٍ .
2- قوله تعالى: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
- قولُه: قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ هذا أمْرٌ مُرادٌ منه التَّبكيتُ لهم، أي: قُلْ عندَ اعترافِهم بذلك -تَبْكيتًا لهم-: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ؟!
- والاستفهامُ في قولِه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إنكاريٌّ؛ إنكارٌ لِعَدَمِ تَذكُّرِهم بذلك. وخُصَّ بالتَّذكُّرِ؛ لِمَا في بَعضِه مِن خَفاءِ الدَّلالةِ، والاحتياجِ إلى النَّظرِ .
3- قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
- قولُه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فيه تَكريرُ الأمرِ بالقَولِ، وإنْ كان المَقولُ مُختلِفًا، دونَ أنْ تُعطَفَ جُملةُ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ؛ لأنَّها وقَعَتْ في سِياقِ التَّعدادِ؛ فناسَبَ أنْ يُعادَ الأمْرُ بالقَولِ دُونَ الاستِغناءِ بحَرفِ العطفِ. والمَقصودُ وُقوعُ هذه الأسئلةِ مُتتابِعةً؛ دَفْعًا لهم بالحُجَّةِ . ولم يُؤْتَ مع هذا الاستِفهامِ بشَرطِ (إنْ كُنْتُم تَعْلَمونَ) ونَحوِه، كما جاء في سابِقِه؛ لأنَّ انفرادَ اللهِ تعالى بالرُّبوبيَّةِ في السَّمواتِ والعرشِ لا يَشُكُّ فيه المُشرِكونَ؛ لأنَّهم لم يَزْعُموا إلهيَّةَ أصنامِهم في السَّمواتِ والعوالِمِ العُلويَّةِ .
- وفي قولِه: وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أُعِيدَ الرَّبُّ؛ تَنويهًا لشأْنِ العرشِ، ورَفعًا لِمَحلِّه عن أنْ يكونَ تَبعًا للسَّمواتِ وُجودًا وذِكرًا .
4- قولُه تعالى: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ لَمَّا سُئِلوا بـ (مَن) الَّتي هي للاستفهامِ عن تَعيينِ ذاتِ المُستفهَمِ عنه، كان مُقْتَضى الاستِعمالِ أنْ يكونَ الجَوابُ بذِكْرِ اسمِ ذاتِ المَسؤولِ عنه؛ (سيقولونَ الله)، فكان العُدولُ عن ذلك إلى الجَوابِ عن كَونِ السَّمواتِ السَّبْعِ والعَرشِ مَملوكةً للهِ: عُدولًا إلى جانِبِ المعنَى دونَ اللَّفظِ؛ مُراعاةً لكَونِ المُستفهَمِ عنه لُوحِظَ بوَصفِ الرُّبوبيَّةِ، والرُّبوبيَّةُ تَقْتضي المُلْكَ. وصَوغُ الآيةِ بهذا الأُسلوبِ؛ لِقَصدِ التَّعريضِ بأنَّهم يَحترِزونَ عن أنْ يَقولوا: ربُّ السَّمواتِ السَّبْعِ اللهُ؛ لأنَّهم أثْبَتوا مع اللهِ أربابًا في السَّمواتِ؛ إذ عَبَدوا الملائكةَ، فهم عَدَلُوا عمَّا فيه نَفْيُ الرُّبوبيَّةِ عن مَعْبُوداتِهم، واقْتَصَروا على الإقرارِ بأنَّ السَّمواتِ مِلْكٌ للهِ؛ لأنَّ ذلك لا يُبطِلُ أوهامَ شِرْكِهم مِن أصْلِها؛ ففي حِكايةِ جَوابِهم بهذا اللَّفظِ تَورُّكٌ عليهم؛ ولذلك ذَيَّلَ حِكايةَ جَوابِهم بالإنكارِ عليهم انتفاءَ اتِّقائِهم اللهَ تعالى .
- قولُه: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ أمْرٌ مُرادٌ منه الإفحامُ لهم والتَّوبيخُ .
- وفي قولِه: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ خَصَّ وَعْظَهم عَقِبَ جَوابِهم بالحثِّ على تَقْوى اللهِ؛ لأنَّه لمَّا تَبيَّنَ مِن الآيةِ الَّتي قَبلَها أنَّهم لا يَسَعُهم إلَّا الاعترافُ بأنَّ اللهَ مالِكُ الأرضِ ومَن فيها، وعُقِّبَتْ تلك الآيةُ بحَضِّهم على التَّذكُّرِ؛ لِيَظهَرَ لهم أنَّهم عِبادُ اللهِ لا عِبادُ الأصنامِ. وتَبيَّنَ مِن الآيةِ السَّابقةِ أنَّه رَبُّ السَّمواتِ -وهي أعظَمُ مِن الأرضِ- وأنَّهم لا يَسَعُهم إلَّا الاعِترافُ بذلك؛ ناسَبَ حَثُّهم على تَقواهُ؛ لأنَّه يَستحِقُّ الطَّاعةَ له وَحْدَه، وأنْ يُطِيعوا رَسولَهُ .
- وحُذِفَ مَفعولُ تَتَّقُونَ؛ لتَنزيلِ الفِعْلِ مَنزِلةَ القاصِرِ؛ لأنَّه دالٌّ على معنًى خاصٍّ، وهو التَّقوى الشَّامِلةُ لامتِثالِ المأْموراتِ، واجتِنابِ المَنْهيَّاتِ .
5- قوله تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- قولُه: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ بُنِيَ فِعْلُ يُجَارُ عَلَيْهِ للمَجهولِ؛ لِقَصدِ انتفاءِ الفِعْلِ عن كلِّ فاعلٍ؛ فيُفِيدُ العُمومَ مع الاختصارِ. ولمَّا كان تَصرُّفُ اللهِ هذا خَفِيًّا يَحتاجُ إلى تَدبُّرِ العَقلِ لإدراكِهِ، عُقِّبَ الاستِفهامُ بقولِه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، كما عُقِّبَ الاستِفهامُ الأوَّلُ بمِثْلِه؛ حَثًّا لهم على عِلْمِه والاهتداءِ إليه، ثمَّ عُقِّبَ بما يدُلُّ على أنَّهم إذا تَدبَّروا عَلِموا، فقيل: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ .
6- قوله تعالى: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ
- الاستِفهامُ في قولِه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ تَعجُّبِيٌّ . وفي قولِه: تُسْحَرُونَ تَشبيهٌ لِمَا يقَعُ منهم مِن التَّخليطِ ووَضعِ الأفعالِ والأقوالِ غيرَ مَواضِعِها بما يقَعُ مِن المَسحورِ .
- وفي التَّذييلاتِ الثَّلاثِ -أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ- ترَقٍّ مِن الأدنى إلى الأغلَظِ في التَّعريضِ، وأنَّها مِن الأُمورِ المُسلَّمةِ؛ لقولِه: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ؛ فقد سُلِكَت في تَرتيبِ هذه الأدِلَّةِ طَريقةُ التَّرقِّي، فابْتُدِئَ بالسُّؤالِ عن مالكِ الأرضِ ومَن فيها؛ لأنَّها أقرَبُ العوالِمِ لإدراكِ المُخاطَبينَ، ثمَّ ارْتُقِيَ إلى الاستِدلالِ برُبوبيَّةِ السَّمواتِ والعرشِ، ثمَّ ارْتُقِيَ إلى ما هو أعَمُّ وأشمَلُ، وهو تَصرُّفُه المُطلَقُ في الأشياءِ كلِّها؛ ولذلك اجْتُلِبَت فيه أداةُ العُمومِ وهي (كل) .
- وتَكرَّرَ قولُه تعالى: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ الأوَّلُ جَوابٌ لقولِه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا جَوابٌ مُطابِقٌ لَفْظًا ومعنًى؛ لأنَّه قال في السُّؤالِ: قُلْ لِمَنِ، فقال في الجَوابِ: لِلَّهِ، وأمَّا الثَّاني والثَّالثُ فالمُطابَقةُ فيهما في المعنى. وقُرِئَ الثَّاني والثَّالثُ (اللهُ، اللهُ) ؛ مُراعاةً للمُطابَقةِ .
- وفي الآياتِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إلى قولِه: قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث خُتِمَ كلُّ سُؤالٍ بما يُناسِبُه؛ فرتَّبَ هذه التَّوبيخاتِ الثَّلاثةَ بالتَّدريجِ؛ فقال أوَّلًا: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، ثمَّ قال ثانيًا: أَفَلَا تَتَّقُونَ، وذلك أبلَغُ؛ لأنَّ فيه زِيادةَ تَخويفٍ، ثمَّ قال ثالثًا: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، وفيه مِن التَّوبيخِ ما ليس في غَيرِه؛ فخُتِمَ مُلْكُ الأرضِ ومَن فيها بالتذكُّرِ أي: أفلا تذكَّرونَ فتعلمونَ أنَّ مَن له ملكُ السمواتِ والأرضِ حَقيقٌ ألَّا يُشرَكَ به بَعضُ خَلْقِه -ممَّن في الأرضِ مُلكًا له- في الرُّبوبيَّةِ؟! وخُتِمَ ما بَعدَها بالتَّقوى، وهي أبلَغُ مِن التَّذكُّرِ، وفيها وَعيدٌ شَديدٌ، وخُتِمَ ما بَعْدَ هذه بقولِه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؛ مُبالَغةً في التَّوبيخِ بَعدَ إقرارِهم والْتِزامِهم ما يقَعُ عليهم به في الاحتِجاجِ .
وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّ هذه الآيَ جاءت بَعْدَما أخبَرَ اللهُ تعالى عن الكُفَّارِ مِن إنكارِ البَعثِ، فأمَرَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يسأَلَهم لمَن الأرضُ ومَن فيها؟ فإنَّهم يُقِرُّون أنَّ جميعَ ذلك لِخالِقِها، وهو اللهُ تعالى، فإذا أقَرُّوا بذلك فقُلْ لهم: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ؛ فخُصَّتْ بالتَّذكُّرِ؛ لأنَّهم إذا أثْبَتوا الخلْقَ الأوَّلَ لَزِمَهم الخَلْقُ الثَّاني. وأمَّا قولُه تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وهذه الأشياءُ مِن أكبَرِ ما يُرى مِن خلْقِ اللهِ تعالى، فإذا أقرَرْتُم للهِ بذلك؛ فلِمَ لا تَجْتَنِبون مَعصِيَتَه، ولا تَتَّقونَ عُقوبتَه. وأمَّا الثَّالثةُ -وهي: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ- فإنَّها جاءت بَعدَ تَقريرٍ ثالثٍ، وهو: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، أي: مَن الَّذي مُلْكُه على الأشياءِ أتَمُّ مُلْكٍ؛ يَمنَعُ مِن المكروهِ مَن شاء، ولا يَملِكُ أحدٌ مَنْعَ مَن أرادهُ بسُوءٍ؟ فإذا أقَرُّوا بذلك، فقُلْ لهم: كيف تُخْدَعونَ عن عقُولِكم حتَّى تَتَّخِذوا الأوثانَ والأصنامَ آلهةً -وهي لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ- مع القادرِ العليمِ الَّذي قد أقرَرْتُم له بأتَمِّ المُلْكِ؟! وأمَّا قولُه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي: مِن أين يأْتِيكم ما يَغلِبُ على عُقولِكم، فيُخيِّلُ الباطلَ إليها حَقًّا، والقَبِيحَ عندَها حَسَنًا؟! فهذا الَّذي ختَمَ به الثَّالثةَ ناظِمٌ معناهُ بخواتيمِ ما قَبْلَه، وكلٌّ في مَكانِه اللَّائقِ به .
وقيل: وجهُ ذلك: أنَّ تَذكيرَهم ورَدَ أوَّلًا بذِكْرِ ما كانوا يُقِرُّون ولا يَتوقَّفونَ فيه، وهو مُلْكُه سُبحانَه الأرضَ ومَن فيها؛ قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، والخالِقُ مالِكٌ لِمَا خلَقَه، فكأنْ قد قِيلَ لهم: إذا علِمْتُم بانفرادِه سُبحانَه بذلك؛ فهلَّا أفرَدْتُموه بالعِبادةِ، واستدْلَلْتُم بالبَدأةِ على العودةِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ؟! ثمَّ ذُكِّروا برُبوبيَّتِه سُبحانَه ومُلْكِه السَّمواتِ السَّبْعَ والعرشَ، فاعْتَرَفوا إلى اعترافِهم بما تقدَّمَ وإقرارِهم بمُلْكِه لِمَا ذُكِرَ، وقُدرتِه وقَهْرِه، ولو سبَقَتْ لهم سعادةٌ لكان تذكُّرُهم لذلك يُؤثِّرُ خَوفَهم مِن عَذابِه، فلمَّا لم يقَعْ ذلك منهم، قِيلَ لهم: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 87] ، ثمَّ ذُكِّروا بعَظيمِ سُلطانِه تعالى، وعُلوِّ قَهْرِه لجَميعِ الموجوداتِ، وكَونِها في قَبْضَتِه، وأنَّه لا حُكْمَ لأحدٍ عليه تعالى، فقال: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 88] ، ثمَّ ذكَرَ اعتِرافَهم بهذا في قولِه: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون: 89] ؛ فلمَّا تمَّ تَقريرُهم على جَميعِ ما تقدَّمَ ممَّا ذُكِّروا به، واعتِرافُهم بكلِّ ذلك، ولم يَعْقُبْ إقرارَهم ولا اعتِرافَهم الإيمانُ والانقيادُ، كانوا كمَن فقَدَ عقْلَه أو سُحِرَ، فاختَلَّ نظَرُه وعقْلُه، فقِيلَ لهم: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ: ما بالُكم كيف تُسحَرُونَ؟! مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 91 - 92] ؛ فوضَحَ تناسُبُ هذا كلِّه، وتبيَّنَ الْتِحامُه .
7- قوله تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
- قولُه: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ إضرابٌ لإبطالِ أنْ يَكونوا مَسْحُورينَ، أي: بلْ ليس الأمْرُ كما خُيِّلَ إليهم .
- والعُدولُ عن الخِطابِ في قولِه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ إلى الغَيبةِ في قولِه: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ: الْتِفاتٌ؛ لأنَّهم المُوجَّهُ إليهم الكلامُ في هذه الجُملةِ .
- قولُه: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فيه تأْكيدُ نِسْبتِهم إلى الكذِبِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لِتَحقيقِ الخبَرِ .
8- قولُه تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
- قولُه: مِنْ وَلَدٍ ومِنْ إِلَهٍ في قولِه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ نَفْيٌ عامٌّ يُفِيدُ استغراقَ الجِنْسِ؛ ولهذا جاء إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ ولم يأْتِ التَّركيبُ: إذًا لَذهَبَ الإلهُ... ؛ فقولُه: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ استِدلالٌ على امتِناعِ أنْ يكونَ مع اللهِ آلِهةٌ. وإنَّما لم يُستدَلَّ على امتِناعِ أنْ يَتَّخِذَ اللهُ ولدًا؛ لأنَّ الاستِدلالَ على ما بَعْدَه مُغْنٍ عنه؛ لأنَّ ما بَعدَه أعَمُّ منه، وانتفاءُ الأعَمِّ يَقْتضي انتفاءَ الأخصِّ؛ فإنَّه لو كان للهِ ولَدٌ لكان الأولادُ آلِهةً؛ لأنَّ ولَدَ كلِّ مَوجودٍ إنَّما يتكوَّنُ على مِثْلِ ماهيَّةِ أصْلِه . فذَكَر الدَّليلَ على نفْيِ الشَّريكِ، واقتَصَرَ عليه، ولم يَذكُرِ الدَّليلَ على نفْيِ الولدِ؛ لأنَّ الدَّليلَ على نفْيِ الشريكِ يَتضمَّنُ نفْيَ الولدِ؛ وذلك أنَّ الولدَ يُنازِعُ الأبَ في المُلكِ مُنازعةَ الأجانبِ؛ فلو كان للهِ ولدٌ لأظْهرَ المنازعةَ كما يكونُ بينَ الإلَهينِ والمَلِكَينِ .
- وأيضًا قولُه: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ جَوابٌ لِمُحاجَّتِهم، وجَزاءٌ لشَرطٍ مَحذوفٍ؛ لدَلالةِ ما قَبْلَه عليه، أي: لو كان معه آلِهَةٌ كما يَزْعُمون لَذَهَبَ... . وإنَّما حُذِفَ؛ لدَلالةِ قولِه: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ عليه .
- قولُه: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ لَمَّا اقْتَضى هذا الدَّليلُ بُطلانَ قولِهم، عُقِّبَ الدَّليلُ بتَنزيهِ اللهِ تعالى عن أقوالِ المُشرِكين، وهو بمَنزِلةِ نَتيجةِ الدَّليلِ .
9- قولُه تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ أتبَعَ الاستِدلالَ على انتفاءِ الشَّريكِ بقولِه: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ المُرادِ به عُمومُ العِلْمِ وإحاطَتُه بكلِّ شَيءٍ -كما أفادَتْهُ لامُ التَّعريفِ في (الغَيْبِ) و(الشَّهَادَةِ) مِن الاستِغراقِ الحقيقيِّ، أي: عالِمِ كلِّ مَغِيبٍ وكلِّ ظاهرٍ-: لدَفْعِ تَوهُّمِ أنْ يُقالَ: إنَّ استِقلالَ كلِّ إلهٍ بما خلَقَ قد لا يُفْضِي إلى عُلوِّ بَعضِ الآلهةِ على بَعضٍ؛ لجَوازِ ألَّا يَعلَمَ أحدٌ مِن الآلهةِ بمِقدارِ تَفاوُتِ مَلكوتِه على مَلكوتِ الآخَرِ، فلا يَحصُلُ عُلوُّ بَعضِهم على بَعضٍ؛ لاشتغالِ كلِّ إلَهٍ بمَلكوتِه. ووَجْهُ الدَّفعِ: أنَّ الإلهَ إذا جاز أنْ يكونَ غيرَ خالِقٍ لطائفةٍ مِن المخلوقاتِ الَّتي خلَقَها غيرُه؛ لئلَّا تَتداخَلَ القُدَرُ في مَقدوراتٍ واحدةٍ: لا يَجوزُ أنْ يكونَ غيرَ عالِمٍ بما خلقَه غيرُه؛ لأنَّ صِفاتِ العِلْمِ لا تَتداخَلُ، فإذا عَلِمَ أحدُ الآلهةِ مِقْدارَ مَلكوتِ شُركائِه؛ فالعالِمُ بأشَدِّيَّةِ مَلكوتِه يَعلُو على مَن هو دُونَه في الملكوتِ؛ فظهَرَ أنَّ قولَه: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مِن تَمامِ الاستِدلالِ على انتفاءِ الشُّركاءِ؛ ولذلك فُرِّعَ عنه بالفاءِ قولُه: فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (93-100)
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
غريب الكلمات:
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ: أي: نَخساتِهم، وغَمزاتِهم، وطَعَناتِهم، ووساوسِهم، والهمْزُ: الدَّفْعُ؛ فهَمَزاتُهم: دَفْعُهم بالإغواءِ إلى المعاصي، أو هو دفعٌ بنَخْزٍ وغَمْزٍ يُشبهُ الطَّعنَ، وأصْلُ (همز): يدُلُّ على ضَغطٍ وعصْرٍ .
وَمِنْ وَرَائِهِمْ: أي: مِن أمامِهم فيما يَستقبلونَ مِن الزَّمانِ، و(وراء) مِن الأضْدادِ، يُقالُ للرَّجل: وراءَك، أي: خلْفَك، ووَراءَك، أي: أمامَك .
بَرْزَخٌ: البَرزخُ: القَبْرُ، أو ما بيْن الدُّنيا والآخرةِ، وكلُّ حاجزٍ بَيْن شَيْئَيْنِ فهو بَرزخٌ .
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا له: قُلْ -يا محمَّدُ-: ربِّ إنْ تُرِني العَذابَ الَّذي وعدتَ به هؤلاء المُشرِكينَ، فنَجِّني حِينذاكَ، ولا تجعَلْني في هؤلاء القومِ الظَّالمينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قادِرٌ على أن يُريَه العذابَ الَّذي أعدَّه لهم.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يقابلَ أذاهم بالخَصلةِ التي هي أحسَنُ الخصالِ؛ وأن يصبرَ على أذاهُم، ويبيِّنُ له أنَّه تعالى أعلَمُ بما يَصِفُه هؤلاء المُشرِكونَ مِنَ الشِّركِ والتَّكذيبِ.
ويأمرُه كذلك أن يستعيذَ به مِن وَساوسِ الشَّياطينِ، ومِن نَزَغاتِهم المُغريةِ على الباطِلِ، وأن يستجيرَ به مِن حُضورِهم في أيِّ أمْرٍ مِن أُمورِه.
ثمَّ يخبرُ تعالَى عن حالِ المحتضَرينَ مِن المفرِّطينَ الظالمينَ، فإنَّه إذا فاجَأَ أحدَهم الموتُ، ونزَلَت به سكَراتُه، ولاحَتْ لهم علاماتُ العذابِ؛ قال حينَها: ربِّ ارجِعْنى إلى الدُّنيا؛ لكيْ أعملَ عملًا صالحًا أستدركُ به ما فرَّطتُ فيه مِن الإيمانِ والطاعاتِ.
ثمَّ يبيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ الأمرَ ليس كما قال هذا الكافرُ النَّادمُ؛ فلن يستجيبَ اللهُ تعالى لهذا الطلبِ، فإنَّ طلبَه هذا مجرَّدُ كَلِمةٍ يقولُها حينَ يأتيه الموتُ، ولا تنفعُه شيئًا؛ ومِن أمامِ هؤلاءِ الموتَى حاجِزٌ يَحولُ بيْنهم وبيْن الرُّجوعِ إلى الدُّنيا، وهذا الحاجِزُ مُستمِرٌّ إلى يومِ البَعثِ والنُّشورِ.
تفسير الآيات:
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما كان عليه الكُفَّارُ مِن ادِّعاءِ الولَدِ والشَّريكِ له، وكان تعالى قد أعلَمَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يَنتقِمُ منهم، ولم يُبيِّنْ إذ ذاك هل يقَعُ ذلك في حَياتِه أمْ بَعْدَ مَوتِه: أمَرَهُ بأنْ يَدْعوَ بهذا الدُّعاءِ .
وأيضًا فإنَّ الآياتِ السَّابقةَ آذنَتْ بأقصى ضَلالِ المُشركينَ، وانتفاءِ عُذْرِهم فيما دانُوا به اللهَ تعالى، وبغَضبِ اللهِ عليهم لذلك، وأنَّهم سواءٌ في ذلك مع الأُمَمِ الَّتي عجَّلَ اللهُ لها العَذابَ في الدُّنيا، وادَّخَرَ لها عذابًا آخَرَ في الآخرةِ؛ فكان ذلك نِذراةً لهم بمِثْلِه، وتَهديدًا بما سيَلْقَونَه، وكان مَثارًا لِخَشيةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَحِلَّ العَذابُ بقَومِه في حَياتِه، والخوفِ مِن هَولِه؛ فلقَّنَ اللهُ نَبِيَّه أنْ يَسأَلَ النَّجاةَ مِن ذلك العذابِ .
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ-: يا ربِّ، إنْ أَرَيتَني ما وعَدْتَ هؤلاء المُشرِكينَ المُكذِّبينَ مِن نُزولِ العذابِ بهم .
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94).
أي: ربِّ، فنَجِّني حِينذاكَ، ولا تَجْعَلْني فيهم .
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ الله عنهما، عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرويه عن رَبِّه عزَّ وجَلَّ، أنَّه قال: ((يا محمَّدُ، إذا صلَّيتَ فقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ فِعلَ الخَيراتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المَساكينِ، وإذا أردْتَ بعِبادِك فِتنةً فاقبِضْني إليك غيْرَ مَفْتونٍ)) .
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95).
أي: وإنَّا -يا محمَّدُ- على أنْ نُرِيَك ما نَعِدُ المُشرِكينَ المُكذِّبينَ مِن العذابِ لَقادِرونَ، وإنَّما نُؤخِّرُه لحِكمةٍ؛ فلا يَحزُنْك تَكذيبُهم .
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أنبَأَ اللهُ رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بما يُلمِحُ له بأنَّه مُنجِزٌ وَعيدَه مِنَ الَّذين كذَّبوهُ، فعَلِمَ الرَّسولُ والمُسلِمون أنَّ اللهَ ضَمِنَ لهمُ النَّصرَ؛ أعقَبَ ذلك بأنْ أمَرَه بأنْ يَدفَعَ مُكذِّبيه بالَّتي هي أحسَنُ، وألَّا يَضِيقَ بتَكذيبِهم صَدْرُه، فذلك دَفْعُ السَّيِّئةِ بالحَسنةِ كما هو أدَبُ الإسلامِ .
وأيضًا لَمَّا تبيَّن أنَّ أخْذَهم وتأْخيرَهم في الإمكانِ على حَدٍّ سَواءٍ، وكانوا يَقولون ويَفْعَلون ما لا صَبْرَ عليه إلَّا بمَعونةٍ مِنَ اللهِ؛ كان كأنَّه قال: فماذا أفعَلُ فيما تَعلَمُ مِن أمْرِهم؟ فقال آمِرًا له بمُداواتِه :
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ.
أي: ادفَعْ -يا محمَّدُ- أذَى أولئك القومِ بالخَصلةِ الَّتي هي أحسَنُ الخِصالِ؛ بأنْ تُحسِنَ إليهم، وتَصفَحَ عنهم، وتَصبِرَ على أذاهُم .
كما قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35].
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ.
أي: نحنُ أعلَمُ بما يَصِفُ أولئك المُشرِكونَ به ربَّهم مِنَ الأكاذيبِ والأباطيلِ المُختَلَقةِ؛ كادِّعاءِ الشَّريكِ والولَدِ له سُبحانَه، وبما يقولونَ فيك مِن السُّوءِ .
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أدَّبَ اللهُ سُبحانَه رَسولَه بقولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96] ، أتْبَعَه بما به يَقْوَى على ذلك؛ وهو الاستِعاذةُ باللهِ مِن أمْرينِ: أحدِهما: مِن هَمزاتِ الشَّياطينِ، وثانيهِما: قولُه: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ .
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97).
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: يا ربِّ، أعتصِمُ بك مِن وَساوسِ الشَّياطينِ، ونزَغاتِهم .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .
وقال سبُحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 36 - 38] .
وعن سُلَيمانَ بنِ صُرَدٍ رضِيَ الله عنه، قال: ((كنتُ جالِسًا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورجُلانِ يَستبَّانِ، فأحدُهما احمَرَّ وجْهُه، وانتفخَتْ أوداجُه ، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي لَأعلَمُ كَلِمةً لو قالها ذهَبَ عنه ما يَجِدُ؛ لو قال: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ، ذهَبَ عنه ما يَجِدُ )) .
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98).
أي: وأعتصِمُ بك -يا ربِّ- أنْ يَحضُرَ الشَّياطينُ شيئًا مِن أُموري، فيُصِيبوني بشَرٍّ وأذًى .
عن أبي اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَدْعو: ((اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك أنْ يَتخبَّطني الشَّيطانُ عندَ الموتِ)) .
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان أضَرُّ أوقاتِ حُضورِ الشَّياطينِ ساعةَ المَوتِ، وحالةَ الفوتِ، فإنَّه وقْتُ كشْفِ الغِطاءِ، عمَّا كُتِبَ مِنَ القضاءِ، وآنُ اللِّقاءِ، وتَحتُّمِ السُّفولِ أوِ الارتقاءِ- عقَّبَ ذلك بذِكْرِه؛ تَنبيهًا على بَذلِ الجُهدِ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ للعِصمةِ فيه، فقال :
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99).
أي: حتَّى إذا حضَرَتِ الوَفاةُ أحدَ المُفرِّطينَ الظَّالِمينَ، فانكشَفَ له الغِطاءُ، وظهَرَ له الحَقُّ، ولاحَتْ له أماراتُ العذابِ؛ قال نادمًا: يا ربِّ، ارجِعُوني إلى الدُّنيا .
كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] .
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100).
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ.
أي: لِأعمَلَ عمَلًا صالِحًا أستَدْرِكُ به ما ضيَّعتُه وفرَّطْتُ فيه مِنَ الإيمانِ وما يتبعُه مِن الطَّاعاتِ .
كَلَّا.
أي: ليس الأمرُ كما قال هذا الظَّالمُ لنَفْسِه؛ فلنْ يَستجيبَ اللهُ طلَبَ إمهالِه وإرجاعِه إلى الدُّنيا لِيعمَلَ صالِحًا .
كما قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11] .
إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا.
أي: إنَّ طلَبَه الرُّجوعَ إلى الدُّنيا مُجرَّدُ كلامٍ يقولُه الظَّالمُ حين تَحضُرُه الوَفاةُ .
وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
أي: ومِن أمامِ هؤلاء المَوتى حاجِزٌ بيْنَ الدُّنيا والآخرةِ يَحجُزُهم عنِ الرُّجوعِ إلى الدُّنيا، مِن وقْتِ مَوتِهم إلى يومِ القِيامةِ الَّذي يَبعَثُ اللهُ فيه النَّاسَ أحياءً مِن قُبورِهم .
الفوائد التربوية:
1- قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ، والتَّخلُّقُ بهذه الآيةِ هو: أنَّ المُؤمِنَ الكامِلَ يَنْبَغي له أنْ يُفوِّضَ أمْرَ المُعتدينَ عليه إلى اللهِ؛ فهو يَتولَّى الانتصارَ لمَن توكَّلَ عليه، وأنَّه إنْ قابَلَ السَّيِّئةَ بالحَسَنةِ، كان انتصارُ اللهِ أشْفى لِصَدْرِه، وأرسَخَ في نَصْرِه، وماذا تَبلُغُ قُدرةُ المَخلوقِ تُجاهَ قُدرةِ الخالِقِ، وهو الَّذي هزَمَ الأحزابَ بلا جُيوشٍ ولا فيالِقَ؟! وهكذا كان خلُقُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقد كان لا يَنتقِمُ لِنفْسِه، وكان يَدْعُو رَبَّه .
2- قال اللهُ تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ فِقْهُ الآيةِ: اسلُكْ مَسلَكَ الكِرامِ ولا تَلحَظْ جانِبَ المكافأةِ، ادفَعْ بغَيرِ عِوَضٍ ولا تَسلُكْ مَسلَكَ المُبايَعةِ. ويَدخُلُ فيه: سَلِّمْ على مَن لمْ يُسلِّمْ عليكَ .
3- قال اللهُ تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قال قَتادةُ: (طلَبَ الرُّجوعَ لِيَعملَ صالِحًا، لا لِيَجمعَ الدُّنيا، ويَقضيَ الشَّهَواتِ؛ فرحِمَ اللهُ امرَأً عَمِلَ فيما يَتمنَّاهُ الكافرُ إذا رأى العَذابَ) .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى: رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فيه إيذانٌ بكَمالِ فَظاعةِ ما وُعِدُوه مِن العَذابِ، وكَونِه بحيثُ يَجِبُ أنْ يَستعيذَ منه مَن لا يكادُ يُمكِنُ أنْ يَحِيقَ به، ورَدٌّ لإنكارِهم إيَّاهُ واستعجالِهم به على طَريقةِ الاستِهزاءِ به . وقيل: أُمِرَ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَضْمًا لنَفْسِه؛ إظهارًا للعُبوديَّةِ وتَواضُعًا لرَبِّه، وإخباتًا له. وقيل: لأنَّ شُؤمَ الكَفَرةِ قد يَحِيقُ بمَن وَراءَهُم، كقولِه تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] .
2- قولُه تعالى: أَنْ نُرِيَكَ فيه إيماءٌ إلى أنَّه في مَنجاةٍ مِن أنْ يَلحَقَه ما يُوعَدونَ به، وأنَّه سَيَراهُ مَرأى عينٍ دونَ كَونٍ فيه .
3- في قولِه تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ دَلالةٌ على أنَّ فِعْلَ العبدِ مَقدورٌ للهِ سُبحانَه؛ فمِنَ المعلومِ أنَّ الإعاذةَ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ ليست بإماتَتِه، ولا تَعطيلِ آلاتِ كَيْدِه، وإنَّما هي بأنْ يَعْصِمَ اللهُ المُستعيذَ مِن أذاهُ له، ويَحولَ بيْنَه وبيْنَ فِعْلِه الاختياريِّ له؛ فدَلَّ على أنَّ فِعْلَه مَقدورٌ له سُبحانَه: إنْ شاء سَلَّطه على العبدِ، وإنْ شاء حالَ بيْنَه وبيْنَه .
4- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ دلَّتِ الآيةُ على أنَّ أحدًا لا يَموتُ حتَّى يَعرِفَ اضطرارًا أهو مِن أولياءِ اللهِ أمْ مِن أعداءِ اللهِ، ولولَا ذلك لَمَا سأَلَ الرَّجعةَ، فيَعْلَموا ذلك قَبلَ نُزولِ الموتِ وذَوَاقِه .
5- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لا يَخْفى ما يَسبِقُ إلى الذِّهنِ فيه مِن رُجوعِ الضَّميرِ إلى الرَّبِّ، والضَّميرُ بصِيغةِ الجمْعِ، والرَّبُّ جَلَّ وعلَا واحدٌ؟ والجوابُ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الوجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الواوَ لِتَعظيمِ المُخاطَبِ، وهو اللهُ، وهذا لفظٌ تَعرِفُه العربُ للجليلِ الشَّأنِ يخبِرُ عن نفسِه بما يخبِرُ به عن الجماعةِ. وذلك النَّادِمُ السَّائلُ الرَّجعةَ يُظهِرُ في ذلك الوقْتِ تَعظيمَه ربَّهُ .
الوجْهُ الثَّاني: أنَّ قَولَه: رَبِّ استغاثةٌ به تَعالى، وقولُه: ارْجِعُونِ خِطابٌ للملائكةِ، فمَسألةُ القَومِ الرَّدَّ إلى الدُّنيا إنَّما كانت منهم للملائكةِ الَّذين يَقْبِضون رُوحَهم، ومِثلُ هذا يَكثُرُ في الكلامِ عن العَرَبِ؛ أن يُخاطِبوا أحدًا ثمَّ تُصرَفُ المُخاطَبةُ إلى غيرِه؛ لأنَّ المعنى مُشتَمِلٌ على ذلك .
الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّه جمَعَ الضَّميرَ لِيَدُلَّ على التَّكرارِ، فكأنَّه قال: ربِّ ارْجِعْني ارْجِعني .
6- قولُه تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، والمرادُ بها قولُه: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ- دلَّ على أنَّ اللَّهُ يُطلِقُ اسمَ الكلمةِ على الكلامِ، وكما في قولِه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] ، وما جاءَ لفظُ الكَلِمةِ في القرآنِ إلَّا مُرادًا به الكلامُ المفيدُ .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ فيه إدخالُ (ما) الزَّائدةِ بَعدَ حَرفِ الشَّرطِ للتَّوكيدِ؛ فاقترَنَ فِعْلُ الشَّرطِ بنُونِ التَّوكيدِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ رَبْطِ الجَزاءِ بالشَّرطِ .
2- قوله تعالى: رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- في تَكريرِ النِّداءِ، ولَفظِ رَبِّ، وتَصديرِ كلٍّ مِن الشَّرطِ والجَزاءِ به في قولِه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: مُبالَغةٌ في الابتِهالِ إلى اللهِ تعالى والتَّضرُّعِ؛ لإبرازِ كَمالِ الضَّراعةِ والابتهالِ . أو ذُكِرَ في هذا الدُّعاءِ لَفْظُ رَبِّ مُكرَّرًا تَمهيدًا للإجابةِ؛ لأنَّ وَصْفَ الرُّبوبيَّةِ يَقْتضي الرَّأفةَ بالمَربوبِ .
- ولَقَّنَ اللهُ نَبِيَّه أنْ يسأَلَ النَّجاةَ مِن ذلك العَذابِ، وفي هذا التَّلقينِ تَعريضٌ بأنَّ اللهَ مُنَجِّيه مِن العذابِ بحِكْمتِه، وإيماءٌ إلى أنَّ اللهَ يُرِي نَبِيَّه حُلولَ العذابِ بمُكذِّبِيه؛ فهذه الجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ، جوابًا عمَّا يَختلِجُ في نَفْسِ رسولِ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
3- قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
- في قولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ عَدَلَ عن مُقْتضى السِّياقِ لسِرٍّ بَليغٍ؛ فالظَّاهرُ أنْ يقولَ: (ادفَعْ بالحَسنةِ السَّيِّئةَ)، ولكنَّه عَدَلَ عن مُقْتضى الكلامِ؛ لِمَا فيه مِن التَّفضيلِ، والمعنى: ادفَعِ السَّيِّئةَ بما أمكَنَ مِن الإحسانِ، حتَّى إذا اجتمَعَ الصَّفحُ والإحسانُ، وبَذْلُ الاستِطاعةِ فيه؛ كانت حَسنةً مُضاعَفةً بإزاءِ سَيِّئةٍ .
- وفي قولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فخَّمَ الأمْرَ بالموصولِ؛ لِمَا فيه مِن الإيهامِ المُشوِّقِ للبَيانِ، ثمَّ بأفعَلِ التَّفضيلِ أَحْسَنُ .
- وأيضًا في قولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ تَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ على المفعولِ؛ للاهتِمامِ .
- قولُه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ خَبرٌ مُستعمَلٌ كِنايةً عن كَونِ اللهِ يُعامِلُ أصحابَ الإساءةِ لرَسولِه بما همْ أحِقَّاءُ به مِن العِقابِ؛ لأنَّ الَّذي هو أعلَمُ بالأحوالِ يَجْري عمَلُه على مُناسِبِ تلك الأحوالِ بالعَدْلِ. وفي هذا تَطمينٌ لِنفْسِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ؛ ففي قولِه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَعيدٌ لهم بالجَزاءِ والعُقوبةِ، وتَسليةٌ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإرشادٌ له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى تَفويضِ أمْرِه إليه تعالى .
4- قولُه تعالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أُمِرَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَعوذَ به تعالى مِن حُضورِهم بَعْدَما أُمِرَ بالعَوذِ مِن هَمزاتِهم؛ للمُبالَغةِ في التَّحذيرِ مِن مُلابَسَتِهم. وإعادةُ الفِعْلِ (أعوذُ) مع تَكريرِ النِّداءِ رَبِّ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتِناءِ بالمأْمورِ به، وعَرْضِ نِهايةِ الابتِهالِ في الاستدعاءِ .
- وقولُه: يَحْضُرُونِ قيل: إنَّه مَقطوعٌ عن مُتعَلِّقِه بمَنزِلةِ اللَّازمِ؛ فالاستِعاذةُ مِن حُضورِه مُطلقًا . وعلى القولِ بتَخصيصِ الاستِعاذةِ بحالِ الصَّلاةِ وقِراءةِ القُرآنِ، أو حالِ حُلولِ الأجَلِ؛ لأنَّها أحْرَى الأحوالِ بالاستِعاذةِ منها .
5- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
- قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ مُتعلِّقٌ بـ يَصِفُونَ، وما بَيْنَهما اعتِراضٌ؛ لتأْكيدِ الإِغضاءِ بالاستِعاذةِ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ أنْ يُزِلَّه عن الحِلْمِ، ويُغْرِيَه على الانتِقامِ . وقيل: حَتَّى ابتدائيَّةٌ، ولا تُفِيدُ أنَّ مَضمونَ ما قَبْلَها مُغيًّا بها؛ فلا حاجةَ إلى تَعليقِ (حتَّى) بـ يَصِفُونَ [المؤمنون: 91] . وقيل: إنَّ (حتَّى) مُتَّصِلةٌ بقولِه: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 95] ؛ فهذا انتِقالٌ إلى وَصفِ ما يَلْقَون مِنَ العذابِ في الآخرةِ بَعْدَ أنْ ذكَرَ عَذابَهم في الدُّنيا؛ فيكونُ قولُه هنا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَصْفًا أُنُفًا -جديدًا- لعَذابِهم في الآخرةِ .
- وفي قَولِه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قدَّمَ المفعولَ فقال: أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ؛ لِيذْهَبَ الوَهْمُ في فاعِلِه كلَّ مَذهَبٍ .
- وضَمائرُ الغَيبةِ عائدةٌ إلى ما عادَتْ عليه الضَّمائرُ السَّابقةُ مِن قولِه: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون: 82] إلى ما هنا، وليست عائدةً إلى الشَّياطينِ، ولقَصْدِ إدماجِ التَّهديدِ بما سيُشاهِدون مِن عَذابٍ أُعِدَّ لهم، فيَندَمُون على تَفريطِهم في مُدَّةِ حَياتِهم .
6- قوله تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
- قولُه: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ في مَوضِعِ العِلَّةِ لمَضمونِ قولِه: ارْجِعُونِ . وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث لم يَنظِمْه في سِلْكِ الرَّجاءِ كسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ، بأنْ يقولَ: (لعلِّي أُؤمِنُ فأعمَلَ...) إلخ؛ للإشعارِ بأنَّه أمْرٌ مُقرَّرُ الوُقوعِ، غَنِيٌّ عن الإخبارِ بوُقوعِه قَطْعًا، فضْلًا عن كَونِه مَرْجُوَّ الوُقوعِ .
- والتَّركُ هنا في قولِه: فِيمَا تَرَكْتُ مُسْتعمَلٌ في حَقيقتِه، وهو معنَى التَّخليةِ والمُفارَقةِ. والمُرادُ بـ فِيمَا تَرَكْتُ عالَمُ الدُّنيا. ويَجوزُ أنْ يُرادَ بالتَّركِ الإعراضُ والرَّفضُ، على أنْ يكونَ المُرادُ بـ (ما) الموصولةِ الإيمانَ باللهِ وتَصديقَ رَسولِه، فذلك هو الَّذي رفَضَه كلُّ مَن يَموتُ على الكُفرِ؛ فالمعنَى: لعلِّي أُسلِمُ، وأعمَلُ صالِحًا في حالةِ إسْلامي الَّذي كنْتُ رَفضْتُه؛ فاشتمَلَ هذا المعنى على وَعْدٍ بالامتِثالِ، واعتِرافٍ بالخطأِ فيما سلَفَ، ورُكِّبَ بهذا النَّظمِ المُوجَزِ؛ قَضاءً لحَقِّ البلاغةِ .
- قولُه: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا كَلَّا رَدْعٌ عن طلَبِ الرَّجعةِ، وإنكارٌ واستِبعادٌ . وقولُه: إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا تَركيبٌ يَجْري مَجرى المثَلِ، وهو مِن مُبتكَراتِ القُرآنِ، وحاصِلُ معناهُ: أنَّ قَولَ المُشرِكِ: رَبِّ ارْجِعُونِ ... إلخ، لا يَتجاوزُ أنْ يكونَ كَلامًا صدَرَ مِن لِسانِه لا جَدْوى له فيه، أي: لا يُستجابُ طلَبُه به؛ فجُملةُ هُوَ قَائِلُهَا وَصفٌ لـ كَلِمَةٌ، أي: هي كَلِمةٌ هذا وَصْفُها. وإذ كان مِن المُحقَّقِ أنَّه قائِلُها، لم يكُنْ في وَصْفِ كَلِمَةٌ به فائدةٌ جديدةٌ؛ فتَعيَّنَ أنْ يكونَ الخبَرُ مُسْتعمَلًا في معنَى أنَّه لا وَصْفَ لكَلِمتِه غيرُ كَونِها صدَرَتْ مِن فِي صاحِبِها، وبذلك يُعلَمُ أنَّ التَّأكيدَ بحَرفِ (إنَّ)؛ لتَحقيقِ المعنى الَّذي استُعمِلَ له الوَصفُ .
- والضَّميرُ في قولِه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ لأحدِهم، والجَمْعُ باعتِبارِ المعنَى؛ لأنَّه في حُكْمِ كلِّهم، كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتِبارِ اللَّفظِ .
- قولُه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إقناطٌ كُلِّيٌّ لِمَا عُلِمَ أنَّه لا رَجعةَ يومَ البَعثِ إلَّا إلى الآخرةِ؛ ففيه التَّقييدُ بالمُحالِ للمُبالَغةِ
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (101-104)
غريب الكلمات:
الصُّورِ: أي: القَرْنِ الَّذي يَنفُخُ فيه إسرافيلُ، وقيل: الصورُ جمعُ صُورَةٍ يَنْفُخُ فيها رُوحَها فتَحْيا .
تَلْفَحُ: أي: تُحرِقُ، ويُقال: لَفَحتْه النَّارُ بحَرِّها: إذا أصابَه حَرُّها، فتغيَّرَ وَجْهُه .
كَالِحُونَ: أي: عابِسونَ، والكُلوحُ: بدوُّ الأسنانِ عندَ العبوسِ، أو: مُتَقَلِّصو الشِّفَاهِ عن الأسنانِ؛ مِن إحْراقِ النَّارِ وُجوهَهم، وأصْلُ (كلح): يدُلُّ على عُبوسٍ وقُبحٍ في الوَجهِ .
المعنى الإجمالي:
يبيِّنُ تعالى أنَّه إذا كان يومُ القِيامةِ، ونُفِخ في الصورِ نفخةُ البعثِ، ونهَض النَّاسُ مِن قُبورِهم؛ فلا ينفعُ أحدًا حينَئذٍ نسَبُه، ولا يَفتخرُ به، ولا يسألُ أحدٌ أحدًا.
فمَن ثَقُلَت مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، فأولئك هم الفائِزونَ بالجنَّةِ، ومَن خفَّتْ مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، فرجَحَت سيِّئاتُه على حَسناتِه؛ فأولئك هم الخاسِرونَ، وسيَمكثونَ في نارِ جهنَّمَ لا يخرجون منها، تُحرِقُ وُجوهَهم النَّارُ، وهم فيها عابِسونَ، مُتقَلِّصو الشِّفاهِ عن الأسنانِ؛ مِن أثرِ العذابِ.
تفسير الآيات:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال اللهُ سُبحانَه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] ؛ ذكَرَ أحوالَ ذلك اليومِ، فقال :
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).
أي: فإذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخةُ البَعثِ ، وقام النَّاسُ مِن قُبورِهم، فلا تَنفَعُهم حينَئذٍ أنسابُهم، ولا يَفتَخِرونَ بها، ولا يَسألُ أحدٌ منهم أحدًا .
كما قال تعالى: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ [المعارج: 11 - 14] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37] .
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102).
أي: فمَن ثقُلَت مَوازينُ حَسَناتِه، ورجَحَت على سَيِّئاتِه؛ فأولئك هم الفائِزونَ بالنَّجاةِ مِنَ النَّارِ، والخُلودِ في الجنَّةِ .
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103).
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
أي: ومَن خفَّت موازينُ حسناتِه، ورجَحَتْ موازينُ سيئاتِه؛ فأولئك الَّذين غَبَنوا أنفسَهم حُظوظَها مِن رَحمةِ اللهِ، وفاتَهم النعيمُ المقيمُ، فخابُوا وهَلَكوا !
فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.
أي: هم في جَهنَّمَ ماكِثونَ لا يَخرُجونَ منها .
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104).
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ.
أي: تُصيبُ نارُ جهنَّمَ وُجوهَهم فتُحرِقُها إحراقًا شديدًا .
كما قال تعالى: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] .
وقال سُبحانَه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ [الأنبياء: 39] .
وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ.
أي: وهم في جَهنَّمَ عابِسونَ قد تقلَّصتْ شِفاهُهم، وظهَرَتْ أسنانُهم؛ مِن أثرِ العذابِ .
الفوائد التربوية:
1- اللهُ تعالى قدْ رتَّبَ الجزاءَ على الأعمالِ لا على الأنسابِ، كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ .
2- عن سَهلِ بنِ عاصمٍ، قال: سَمِعتُ إبراهيمَ يقولُ: سَمِعتُ رَجُلًا يقولُ لزُهَيرِ بنِ نُعَيمٍ: (ممَّن أنتَ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: ممَّن أَنعَمَ اللهُ عليه بالإسلامِ. قال: إنَّما أُريدُ النَّسَبَ. قال: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101] ) .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال تعالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ. هذه الآيةُ الكريمةُ تَدُلُّ على أنَّهم لا أنسابَ بيْنَهم يومَئذٍ، وأنَّهم لا يَتَساءَلونَ يومَ القيامةِ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ على ثبوتِ الأنسابِ بيْنَهم، كقولِه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ... الآيةَ [عبس: 34- 36] ؟
والجوابُ: أنَّ المرادَ بنفيِ الأنسابِ انقطاعُ فوائِدِها وآثارِها الَّتي كانت مُترتِّبةً عليها في الدُّنيا؛ مِنَ العواطفِ والنَّفعِ والصِّلاتِ والتَّفاخُرِ بالآباءِ، لا نفيُ حقيقَتِها . وقيل غيرُ ذلك .
2- قال اللهُ تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، قولُه تعالى في هذه الآيةِ: وَلَا يَتَسَاءَلُونَ وقولُه: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج: 10] لا يُناقِضُ قولَه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات: 27] ، وقولَه: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس: 45] ؛ وذلك مِن وُجوهٍ:
الوجه الأوَّل: أنَّ يومَ القيامةِ مِقدارُهُ خَمسونَ ألْفَ سنَةٍ؛ ففيه أزْمِنةٌ وأحوالٌ مُختلِفةٌ، فيَتعارَفونَ ويَتَساءلون في بَعْضِها، ويتحيَّرونَ في بَعضِها؛ لشِدَّةِ الفزَعِ، فقيل: نَفْيُ السُّؤالِ عندَ اشْتِغالِهم بالصَّعقِ والمُحاسَبةِ والجوازِ على الصِّراطِ، وإثباتُه فيما عَدا ذلك.
الوجه الثَّاني: أنَّه إذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفخةٌ واحدةٌ شُغِلوا بأنفُسِهم عن التَّساؤُلِ، فإذا نُفِخَ فيه أُخرى أقبَلَ بعضُهم على بَعضٍ وقالوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ [يس: 52] ، فنفيُ السُّؤالِ بعدَ النَّفخةِ الأُولَى وقبْلَ الثَّانيةِ، وإثباتُه بعدَهما مَعًا.
الوجه الثَّالث: المُرادُ: لا يَتساءلونَ بحُقوقِ النَّسبِ.
الوجه الرَّابع: أنَّ قولَه: وَلَا يَتَسَاءَلُونَ صِفَةٌ للكُفَّارِ؛ وذلك لشِدَّةِ خَوفِهم، أمَّا قولُه: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ فهو صِفةُ أهْلِ الجنَّةِ إذا دَخَلوها .
الوجه الخامس: أنَّ قولَه وَلَا يَتَسَاءَلُونَ أي: في التناصُرِ، فلا يُناقِضُ نَفْيُ التَّساؤُلِ هنا إثباتَه في غَيرِه؛ لأنَّه في غَيرِ تناصُرٍ، بلْ في التَّلاوُمِ والتَّعاتُبِ والتَّخاصُمِ .
الوجه السَّادس: أنَّ السُّؤالَ المَنْفيَّ سُؤالٌ خاصٌّ، وهو سُؤالُ بَعضِهم العفْوَ مِن بَعضٍ فيما بيْنهم مِنَ الحُقوقِ؛ لقُنوطِهم مِنَ الإعطاءِ، ولو كان المَسؤولُ أبًا أو ابنًا، أو أمًّا أو زوجةً .
3- في قولِه تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ دَلالةٌ على أنَّ الموازينَ للكافِرِ والمُؤمِنِ معًا ، وقد استدَلَّ به مالِكٌ على أنَّ الكُفَّارَ يُنصَبُ لهم المِيزانُ .
4- قولُ الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إنْ قيل: الميزانُ واحِدٌ ، فما وجهُ الجَمعِ؟
فالجوابُ: أنَّ العَربَ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وقيل: إنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ. وقيل: جُمِعَ لاختلافِ الموزوناتِ، وتعَدُّدِ الجَمعِ، فهو جمعُ مَوزونٍ أو ميزانٍ، فالميزانُ واحدٌ، وأُطلق عليه اسمُ الجمعِ؛ لكثرةِ ما يُوزَنُ فيه مِن أنواعِ الأعمالِ، وكثرةِ الأشخاصِ العاملينَ الموزونةِ أعمالُهم .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ تَفريعٌ على قولِه: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] ؛ فإنَّ زمَنَ النَّفخِ في الصُّورِ هو يومُ البَعثِ، فالتَّقديرُ: فإذا جاء يومُ يُبْعَثون، ولكنْ عُدِلَ عن ذلك إلى فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ تَصويرًا لحالةِ يومِ البَعثِ .
- وأُسْنِدَ نُفِخَ إلى المَجهولِ؛ لأنَّ المُعْتَنى به هو حُدوثُ النَّفخِ لا تَعيينُ النَّافخِ .
- قولُه: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ كِنايةٌ عن عدَمِ النَّصيرِ على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ؛ ففي قولِه: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ ما يُعرَفُ بالتَّنكيتِ؛ فقد قصَدَ بنَفْيِ الأنسابِ -وهي مَوجودةٌ- أمْرًا آخَرَ لِنُكْتةٍ فيه؛ فإنَّ الأنسابَ ثابتةٌ، وقد كان العرَبُ يَتفاخَرون بها في الدُّنيا، ولكنَّه جنَحَ إلى نَفْيِها إمَّا لأنَّها تَلْغُو في الآخرةِ؛ إذ يقَعُ التَّقاطُعُ بيْنهم، فيَتفرَّقونَ مُعاقَبِينَ أو مُثابِينَ، أو أنَّه قصَدَ بالنَّفْيِ صِفَةً للأنسابِ مَحذوفةً، أي: يُعتَدُّ بها، حيث تَزولُ بالمرَّةِ وتَبطُلُ؛ لِزَوالِ التَّراحُمِ والتَّعاطُفِ مِن فَرطِ البُهْرِ والكَلالِ واستيلاءِ الدَّهشةِ عليهم .
2- قولُه تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بَيانُ الرَّدِّ على قَولِ قائلِهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون: 99، 100]، المَردودِ إجمالًا بقولِه تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون: 100] ؛ فقُدِّمَ عليه ما هو كالتَّمهيدِ له، وهو قولُه: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ إلى آخِرِه؛ مُبادرةً بتأْيِيسهم مِن أنْ تَنفَعَهم أنسابُهم أو استِنْجادُهم .
- وذِكْرُ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ في هذهِ الآيةِ إدْماجٌ؛ للتَّنويهِ بالمُؤمِنينَ، وتَهديدِ المُشرِكين؛ لأنَّ المُشرِكين لا يَجِدون في مَوازينِ الأعمالِ الصَّالحةِ شيئًا .
3- قولُه تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَمثيلٌ لحالِ خَيبَتِهم فيما كانوا يأْمُلونَه مِن شَفاعةِ أصنامِهم، وأنَّ لهم النَّجاةَ في الآخرةِ، أو مِن أنَّهم غيرُ صائرينَ إلى البَعثِ، فكذَّبوا بما جاء به الإسلامُ، وحَسِبُوا أنَّهم قد أعَدُّوا لأنفُسِهم الخيرَ، فوَجَدوا ضِدَّه، فكانت نُفوسُهم مَخْسُورةً، كأنَّها تَلِفَتْ منهم؛ ولذلك نُصِبَ أَنْفُسَهُمْ على المفعولِ بـ خَسِرُوا .
- وتَكرارُ اسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ؛ لزِيادةِ تَمييزِ الفَريقينِ بصِفاتِهم . والجَمْعُ فيهما باعتِبارِ معناهُما، كما أنَّ إفرادَ الضَّميرينِ في الصِّلتينِ -فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ- باعتِبارِ اللَّفظِ .
4- قوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
- في قولِه: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ خَصَّ الوَجْهَ باللَّفحِ؛ لأنَّه أشرَفُ ما في الإنسانِ، والإنسانُ أحفَظُ له مِن الآفاتِ مِن غَيرِه مِن الأعضاءِ؛ فإذا لُفِحَ الأشرفُ فما دُونَه مَلفوحٌ . أو: لأنَّ بيانَ حالِها أزجَرُ عن المعاصي المُؤدِّيةِ إلى النَّارِ، وهو السِّرُّ في تَقديمِها على الفاعِلِ .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (101-104)
غريب الكلمات:
الصُّورِ: أي: القَرْنِ الَّذي يَنفُخُ فيه إسرافيلُ، وقيل: الصورُ جمعُ صُورَةٍ يَنْفُخُ فيها رُوحَها فتَحْيا .
تَلْفَحُ: أي: تُحرِقُ، ويُقال: لَفَحتْه النَّارُ بحَرِّها: إذا أصابَه حَرُّها، فتغيَّرَ وَجْهُه .
كَالِحُونَ: أي: عابِسونَ، والكُلوحُ: بدوُّ الأسنانِ عندَ العبوسِ، أو: مُتَقَلِّصو الشِّفَاهِ عن الأسنانِ؛ مِن إحْراقِ النَّارِ وُجوهَهم، وأصْلُ (كلح): يدُلُّ على عُبوسٍ وقُبحٍ في الوَجهِ .
المعنى الإجمالي:
يبيِّنُ تعالى أنَّه إذا كان يومُ القِيامةِ، ونُفِخ في الصورِ نفخةُ البعثِ، ونهَض النَّاسُ مِن قُبورِهم؛ فلا ينفعُ أحدًا حينَئذٍ نسَبُه، ولا يَفتخرُ به، ولا يسألُ أحدٌ أحدًا.
فمَن ثَقُلَت مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، فأولئك هم الفائِزونَ بالجنَّةِ، ومَن خفَّتْ مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، فرجَحَت سيِّئاتُه على حَسناتِه؛ فأولئك هم الخاسِرونَ، وسيَمكثونَ في نارِ جهنَّمَ لا يخرجون منها، تُحرِقُ وُجوهَهم النَّارُ، وهم فيها عابِسونَ، مُتقَلِّصو الشِّفاهِ عن الأسنانِ؛ مِن أثرِ العذابِ.
تفسير الآيات:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال اللهُ سُبحانَه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] ؛ ذكَرَ أحوالَ ذلك اليومِ، فقال :
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).
أي: فإذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخةُ البَعثِ ، وقام النَّاسُ مِن قُبورِهم، فلا تَنفَعُهم حينَئذٍ أنسابُهم، ولا يَفتَخِرونَ بها، ولا يَسألُ أحدٌ منهم أحدًا .
كما قال تعالى: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ [المعارج: 11 - 14] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37] .
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102).
أي: فمَن ثقُلَت مَوازينُ حَسَناتِه، ورجَحَت على سَيِّئاتِه؛ فأولئك هم الفائِزونَ بالنَّجاةِ مِنَ النَّارِ، والخُلودِ في الجنَّةِ .
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103).
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
أي: ومَن خفَّت موازينُ حسناتِه، ورجَحَتْ موازينُ سيئاتِه؛ فأولئك الَّذين غَبَنوا أنفسَهم حُظوظَها مِن رَحمةِ اللهِ، وفاتَهم النعيمُ المقيمُ، فخابُوا وهَلَكوا !
فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.
أي: هم في جَهنَّمَ ماكِثونَ لا يَخرُجونَ منها .
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104).
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ.
أي: تُصيبُ نارُ جهنَّمَ وُجوهَهم فتُحرِقُها إحراقًا شديدًا .
كما قال تعالى: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] .
وقال سُبحانَه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ [الأنبياء: 39] .
وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ.
أي: وهم في جَهنَّمَ عابِسونَ قد تقلَّصتْ شِفاهُهم، وظهَرَتْ أسنانُهم؛ مِن أثرِ العذابِ .
الفوائد التربوية:
1- اللهُ تعالى قدْ رتَّبَ الجزاءَ على الأعمالِ لا على الأنسابِ، كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ .
2- عن سَهلِ بنِ عاصمٍ، قال: سَمِعتُ إبراهيمَ يقولُ: سَمِعتُ رَجُلًا يقولُ لزُهَيرِ بنِ نُعَيمٍ: (ممَّن أنتَ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: ممَّن أَنعَمَ اللهُ عليه بالإسلامِ. قال: إنَّما أُريدُ النَّسَبَ. قال: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101] ) .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال تعالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ. هذه الآيةُ الكريمةُ تَدُلُّ على أنَّهم لا أنسابَ بيْنَهم يومَئذٍ، وأنَّهم لا يَتَساءَلونَ يومَ القيامةِ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ على ثبوتِ الأنسابِ بيْنَهم، كقولِه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ... الآيةَ [عبس: 34- 36] ؟
والجوابُ: أنَّ المرادَ بنفيِ الأنسابِ انقطاعُ فوائِدِها وآثارِها الَّتي كانت مُترتِّبةً عليها في الدُّنيا؛ مِنَ العواطفِ والنَّفعِ والصِّلاتِ والتَّفاخُرِ بالآباءِ، لا نفيُ حقيقَتِها . وقيل غيرُ ذلك .
2- قال اللهُ تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، قولُه تعالى في هذه الآيةِ: وَلَا يَتَسَاءَلُونَ وقولُه: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج: 10] لا يُناقِضُ قولَه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات: 27] ، وقولَه: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس: 45] ؛ وذلك مِن وُجوهٍ:
الوجه الأوَّل: أنَّ يومَ القيامةِ مِقدارُهُ خَمسونَ ألْفَ سنَةٍ؛ ففيه أزْمِنةٌ وأحوالٌ مُختلِفةٌ، فيَتعارَفونَ ويَتَساءلون في بَعْضِها، ويتحيَّرونَ في بَعضِها؛ لشِدَّةِ الفزَعِ، فقيل: نَفْيُ السُّؤالِ عندَ اشْتِغالِهم بالصَّعقِ والمُحاسَبةِ والجوازِ على الصِّراطِ، وإثباتُه فيما عَدا ذلك.
الوجه الثَّاني: أنَّه إذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفخةٌ واحدةٌ شُغِلوا بأنفُسِهم عن التَّساؤُلِ، فإذا نُفِخَ فيه أُخرى أقبَلَ بعضُهم على بَعضٍ وقالوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ [يس: 52] ، فنفيُ السُّؤالِ بعدَ النَّفخةِ الأُولَى وقبْلَ الثَّانيةِ، وإثباتُه بعدَهما مَعًا.
الوجه الثَّالث: المُرادُ: لا يَتساءلونَ بحُقوقِ النَّسبِ.
الوجه الرَّابع: أنَّ قولَه: وَلَا يَتَسَاءَلُونَ صِفَةٌ للكُفَّارِ؛ وذلك لشِدَّةِ خَوفِهم، أمَّا قولُه: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ فهو صِفةُ أهْلِ الجنَّةِ إذا دَخَلوها .
الوجه الخامس: أنَّ قولَه وَلَا يَتَسَاءَلُونَ أي: في التناصُرِ، فلا يُناقِضُ نَفْيُ التَّساؤُلِ هنا إثباتَه في غَيرِه؛ لأنَّه في غَيرِ تناصُرٍ، بلْ في التَّلاوُمِ والتَّعاتُبِ والتَّخاصُمِ .
الوجه السَّادس: أنَّ السُّؤالَ المَنْفيَّ سُؤالٌ خاصٌّ، وهو سُؤالُ بَعضِهم العفْوَ مِن بَعضٍ فيما بيْنهم مِنَ الحُقوقِ؛ لقُنوطِهم مِنَ الإعطاءِ، ولو كان المَسؤولُ أبًا أو ابنًا، أو أمًّا أو زوجةً .
3- في قولِه تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ دَلالةٌ على أنَّ الموازينَ للكافِرِ والمُؤمِنِ معًا ، وقد استدَلَّ به مالِكٌ على أنَّ الكُفَّارَ يُنصَبُ لهم المِيزانُ .
4- قولُ الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إنْ قيل: الميزانُ واحِدٌ ، فما وجهُ الجَمعِ؟
فالجوابُ: أنَّ العَربَ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وقيل: إنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ. وقيل: جُمِعَ لاختلافِ الموزوناتِ، وتعَدُّدِ الجَمعِ، فهو جمعُ مَوزونٍ أو ميزانٍ، فالميزانُ واحدٌ، وأُطلق عليه اسمُ الجمعِ؛ لكثرةِ ما يُوزَنُ فيه مِن أنواعِ الأعمالِ، وكثرةِ الأشخاصِ العاملينَ الموزونةِ أعمالُهم .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ تَفريعٌ على قولِه: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] ؛ فإنَّ زمَنَ النَّفخِ في الصُّورِ هو يومُ البَعثِ، فالتَّقديرُ: فإذا جاء يومُ يُبْعَثون، ولكنْ عُدِلَ عن ذلك إلى فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ تَصويرًا لحالةِ يومِ البَعثِ .
- وأُسْنِدَ نُفِخَ إلى المَجهولِ؛ لأنَّ المُعْتَنى به هو حُدوثُ النَّفخِ لا تَعيينُ النَّافخِ .
- قولُه: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ كِنايةٌ عن عدَمِ النَّصيرِ على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ؛ ففي قولِه: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ ما يُعرَفُ بالتَّنكيتِ؛ فقد قصَدَ بنَفْيِ الأنسابِ -وهي مَوجودةٌ- أمْرًا آخَرَ لِنُكْتةٍ فيه؛ فإنَّ الأنسابَ ثابتةٌ، وقد كان العرَبُ يَتفاخَرون بها في الدُّنيا، ولكنَّه جنَحَ إلى نَفْيِها إمَّا لأنَّها تَلْغُو في الآخرةِ؛ إذ يقَعُ التَّقاطُعُ بيْنهم، فيَتفرَّقونَ مُعاقَبِينَ أو مُثابِينَ، أو أنَّه قصَدَ بالنَّفْيِ صِفَةً للأنسابِ مَحذوفةً، أي: يُعتَدُّ بها، حيث تَزولُ بالمرَّةِ وتَبطُلُ؛ لِزَوالِ التَّراحُمِ والتَّعاطُفِ مِن فَرطِ البُهْرِ والكَلالِ واستيلاءِ الدَّهشةِ عليهم .
2- قولُه تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بَيانُ الرَّدِّ على قَولِ قائلِهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون: 99، 100]، المَردودِ إجمالًا بقولِه تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون: 100] ؛ فقُدِّمَ عليه ما هو كالتَّمهيدِ له، وهو قولُه: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ إلى آخِرِه؛ مُبادرةً بتأْيِيسهم مِن أنْ تَنفَعَهم أنسابُهم أو استِنْجادُهم .
- وذِكْرُ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ في هذهِ الآيةِ إدْماجٌ؛ للتَّنويهِ بالمُؤمِنينَ، وتَهديدِ المُشرِكين؛ لأنَّ المُشرِكين لا يَجِدون في مَوازينِ الأعمالِ الصَّالحةِ شيئًا .
3- قولُه تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَمثيلٌ لحالِ خَيبَتِهم فيما كانوا يأْمُلونَه مِن شَفاعةِ أصنامِهم، وأنَّ لهم النَّجاةَ في الآخرةِ، أو مِن أنَّهم غيرُ صائرينَ إلى البَعثِ، فكذَّبوا بما جاء به الإسلامُ، وحَسِبُوا أنَّهم قد أعَدُّوا لأنفُسِهم الخيرَ، فوَجَدوا ضِدَّه، فكانت نُفوسُهم مَخْسُورةً، كأنَّها تَلِفَتْ منهم؛ ولذلك نُصِبَ أَنْفُسَهُمْ على المفعولِ بـ خَسِرُوا .
- وتَكرارُ اسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ؛ لزِيادةِ تَمييزِ الفَريقينِ بصِفاتِهم . والجَمْعُ فيهما باعتِبارِ معناهُما، كما أنَّ إفرادَ الضَّميرينِ في الصِّلتينِ -فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ- باعتِبارِ اللَّفظِ .
4- قوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
- في قولِه: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ خَصَّ الوَجْهَ باللَّفحِ؛ لأنَّه أشرَفُ ما في الإنسانِ، والإنسانُ أحفَظُ له مِن الآفاتِ مِن غَيرِه مِن الأعضاءِ؛ فإذا لُفِحَ الأشرفُ فما دُونَه مَلفوحٌ . أو: لأنَّ بيانَ حالِها أزجَرُ عن المعاصي المُؤدِّيةِ إلى النَّارِ، وهو السِّرُّ في تَقديمِها على الفاعِلِ .
سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (105-114)
غريب الكلمات:
شِقْوَتُنَا: الشِّقْوةُ مصدرُ شَقِيَ، كالشَّقاوةِ والشَّقاءِ: خلافُ السَّعادةِ، وأصْلُ (شقو): يدُلُّ على المُعاناةِ وخِلافِ السُّهولةِ والسَّعادةِ .
اخْسَئُوا: أَيِ: اقْعُدوا وامْكُثوا فيها صاغِرينَ، مُهانينَ، أذلَّاءَ، وابْعُدُوا، وأصْلُ (خسأ): يدُلُّ على الإبعادِ .
سِخْرِيًّا: أي: استِهزاءً، يُقالُ: سَخِرْتُ منه، واسْتَسْخَرْتُه لِلْهُزْءِ، والسِّخْرِيُّ -بكسْرِ السِّينِ- مِنَ: الهُزءِ، وأصْلُ (سخر): يدُلُّ على احتِقارٍ واستِذلالٍ .
المعنى الإجمالي:
يخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه يقولُ لأهْلِ النَّارِ يومَ القِيامةِ: ألمْ تكُنْ آياتُ كتابي تُقرَأُ عليكمْ في الدُّنيا، فكنتُم تُكذِّبونَ بها؟ فيجيبونَ: رَبَّنا غلَبَ علينا ما سبَقَ لنا في سابِقِ عِلْمِك، وكتبْتَه في اللَّوحِ المحفوظِ، وقدَّرتَه علينا مِن شَقاوةٍ، وكنَّا ضالِّينَ عن الهُدى والرَّشادِ، رَبَّنا أخرِجْنا مِنَ النَّارِ، فإنْ رَجَعْنا إلى الكُفرِ وارتِكابِ السَّيِّئاتِ فإنَّا ظالِمونَ نَستَحِقُّ العقوبةَ.
فيقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لهم: امكُثوا في النَّارِ أذِلَّاءَ حقيرينَ مُبعَدينَ، ولا تُخاطِبوني في إخراجِكم مِنَ النارِ؛ إنَّه كان فَريقٌ مِن عِبادي المُؤمِنينَ يَقولونَ: رَبَّنا آمَنَّا فاغفِرْ ذُنوبَنا وارحَمْنا، وأنت خيرُ الرَّاحِمينَ، فسَخِرتُم منهم، واستهزَأتُم بهم، حتَّى أنْسَوكم -لانِشغالِكم بالسُّخريةِ منهم- ذِكْري، وقد كنتُم تَضحَكونَ منهم في الدنيا عِندَما ترَونَهم. إنِّي جَزيتُ هؤلاء المُؤمِنينَ بسَبَبِ صَبرِهم على أذاكُم، وعلى امتِثالِ الأمرِ واجتِنابِ النَّهيِ: أنَّهم هم الفائزونَ بالجنةِ.
ثم أخبرَ اللهُ تعالى أنَّه قال لهم: كم عَدَدُ السِّنينَ الَّتي أقمْتُموها في الدُّنيا؟ قالوا: أقَمْنا فيها يومًا أو بعضَ يومٍ، فاسأَلِ الحاسِبينَ الضَّابِطينَ لمِقْدارِ ذلك. قال اللهُ تعالى لهم: ما لَبِثتُم في الدُّنيا إلَّا وقْتًا قليلًا، لو كنتُمْ تعلَمونَ أن إقامتَكم في الدنيا قليلةٌ لَمَا آثَرْتُم الدُّنيا الفانيةَ على الآخرةِ الباقيةِ.
تفسير الآيات:
أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105).
أي: يقولُ اللهُ تَعالَى لأهْلِ النَّارِ يومَ القِيامةِ: ألمْ تكُنْ آياتُ كِتابي تَتتابَعُ عليكم قِراءتُها في الدُّنيا شيئًا فشيئًا، فكنتُمْ تُكذِّبون بها ؟
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106).
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا.
أي: قال أهْلُ النَّارِ: ربَّنا غلَبَ علينا ما سبَقَ لنا في سابِقِ عِلْمِك، وكَتبْتَه في اللَّوحِ المَحفوظِ، وما قدَّرْتَه علينا مِن شَقاوةٍ، فكذَّبْنا الرُّسلَ، ولم نَهْتدِ بعدَ قِيامِ الحُجَّةِ علينا؛ لنصيرَ إلى ما سَبَق في عِلمِك .
وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ.
أي: وكُنَّا في الدُّنيا قَومًا ضالِّينَ عن طَريقِ الحقِّ، تائهينَ عن سَبيلِ الرَّشادِ .
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107).
أي: قالوا: ربَّنا أخْرِجْنا مِنَ النَّارِ إلى الدُّنيا، فإنْ عُدْنا إلى ما كنَّا عليه مِنَ الكُفْرِ والعِصيانِ، فنَحنُ ظالِمونَ لأنفُسِنا، ومُستحِقُّونَ للعِقابِ .
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108).
أي: قال اللهُ لأهْلِ النَّارِ: اقْعُدوا في النَّارِ ذَلِيلينَ مُبعَدينَ حَقيرينَ، ولا تُكلِّموني في إخراجِكم منها .
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ الحالَ الَّتي أوصَلَتِ المُشركينَ إلى العذابِ، وقطَعَتْ عنهم الرَّحمةَ، فقال :
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109).
أي: إنَّه كان في الدُّنيا جَماعةٌ مِن عِبادي المُؤمنينَ المُستضعَفينَ يَقولون في دُعائِهم: ربَّنا آمَنَّا بكَ وبجَميعِ ما جاءتْ به رُسلُكَ؛ فاسْتُرْ ذُنوبَنا، وتَجاوَزْ عن مُؤاخَذَتِنا بها، وارحَمْنا وأنتَ أَفضَلُ مَن رحِمَ .
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: سِخْرِيًّا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ سُخْرِيًّا بضَمِّ السِّينِ. قيل: مِنَ السُّخرةِ والاستِخدامِ. وقيل: هي بمعنى الاستِهزاءِ كالقِراءةِ الأُخرى .
2- قراءةُ: سِخْرِيًّا بكَسرِ السِّينِ، بمعنى: الاستِهزاءِ .
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110).
أي: فاسْتهزأْتُم بهؤلاءِ المؤمنينَ إلى أنْ أَنساكُمْ اشتِغالُكم بالسُّخريةِ منهم ذِكْري ، وكنتُمْ تَضْحَكون منهم في الدُّنيا .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ [المطففين: 29 - 32] .
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111).
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا.
أي: إنِّي جَزَيتُ هؤلاء المُؤمنينَ الَّذين اتَّخذْتُموهم سِخْرِيًّا وكنتُمْ تَضْحَكون منهم؛ بسبَبِ صَبْرِهم على ما نالَهُم في الدُّنيا منكم مِن أذًى واستِهزاءٍ، وصبرِهم على الطَّاعةِ، وعن المعصيةِ .
كما قال تعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 12] .
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: أَنَّهُمْ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ إِنَّهُمْ على معنى الاستِئنافِ، وهو استِئنافٌ مُعَلِّلٌ للجَزاءِ. وقيل: مُبَيِّنٌ لِكَيفيَّتِه. ويكونُ الكلامُ تامًّا عندَ قولِه تعالى: بِمَا صَبَرُوا .
2- قِراءةُ أَنَّهُمْ قِيلَ: على معنى التَّعليلِ لِمَا سبَقَ، فتكونُ مُوافِقةً للقِراءةِ الأُولى؛ فإنَّ الاستئنافَ يُعَلَّلُ به أيضًا. أي: جَزَيتُهم اليومَ بما صَبَروا؛ لأنَّهم همُ الفائِزونَ. وقيلَ: على معنى المفعوليَّةِ، أي: جَزَيتُهم اليومَ بصَبْرِهم الفَوْزَ .
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ.
أي: أنَّهم الفائِزونَ بالنَّعيمِ المُقيمِ في الجنَّةِ، النَّاجونَ مِن عَذابِ النَّارِ .
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ (قُلْ) على الأمْرِ بغَيرِ ألِفٍ، قِيلَ: هو أمْرٌ للمَلَكِ أنْ يسأَلَهم يومَ البَعثِ عن قَدْرِ مُكْثِهم في الدُّنيا، أو عن قَدْرِ لُبْثِهم في قُبورِهم. وقِيلَ: المعنى: قُولوا: كم لَبِثْتُم؟ فأُخرِجَ الكلامُ مُخرَجَ الأمْرِ للواحدِ، والمُرادُ: الجَماعةُ. وقِيلَ: المعنى: قُلْ: أيُّها الكُفَّارُ، كم لَبِثْتُم في الدُّنيا أو في قُبورِكم ؟
2- قِراءةُ قَالَ بالألِفِ على الخبَرِ، أي: قالَ اللهُ تعالى لهم، أو قالتِ الملائكةُ لهم: كمْ لَبِثْتُم في الدُّنيا أو في قُبورِكم ؟
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112).
أي: قال اللهُ في الآخِرةِ لأُولئكَ الأشقياءِ: كمْ كانتْ مُدَّةُ مُكْثِكم في الأرضِ مِنَ السِّنينَ ؟
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113).
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
أي: قالوا: مَكَثْنا في الأرضِ يومًا أو بعضَ يومٍ .
فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ.
أي: فاسأَلِ الحاسِبينَ الضَّابطينَ لِمِقدارِ ذلك .
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114).
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: قال اللهُ لهم: ما لَبِثْتُم في الأرضِ إلَّا وقْتًا يَسيرًا .
لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: لو أنَّكم كنتُمْ تَعلَمون قِلَّةَ لُبْثِكم في الدُّنيا لَمَا آثرْتُم الدُّنيا الفانيةَ على الآخِرَةِ الباقيةِ، فترَكْتُم طاعةَ اللهِ في تلك المُدَّةِ القَصيرةِ، واستَحْقَقْتُم سَخَطَهُ، وخَسِرْتُم النَّعيمَ الأبديَّ .
الفوائد التربوية:
1- قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جَمَعوا بيْنَ الإيمانِ المُقتضي لأعمالِه الصَّالحةِ، والدُّعاءِ لِرَبِّهم بالمَغْفرةِ والرَّحمةِ، والتَّوسُّلِ إليه برُبوبيَّتِه، ومِنَّتِه عليهم بالإيمانِ، والإخبارِ بسَعةِ رَحمَتِه، وعُمومِ إحسانِه، وفي ضِمْنِه ما يدُلُّ على خُضوعِهم وخُشوعِهم وانكسارِهم لِرَبِّهم، وخَوفِهم ورَجائِهم. فهؤلاء ساداتُ النَّاسِ وفُضلاؤهم .
2- مِن أنواعِ التوسُّلِ المشروعِ في دعاءِ الله تعالى: التوسُّلُ إلى اللهِ تعالَى بالإيمانِ به وطاعتِه؛ كقولِه تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وقولِه عن أُولي الألبابِ: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران: 193] .
3- في قولِه تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ إلى قولِه سُبحانَه: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116] ، هذه الآياتُ تُبيِّنُ أنَّ الإنسانَ يَنْبَغي له أنْ يَنتهِزَ فُرصةَ العُمرِ، وألَّا يَخسَرَ عُمرَه كما خَسِرَه هؤلاءِ، وأنَّه سوفَ يُبعَثُ ويُجازَى ويُحاسَبُ على عمَلِه، فنسأَلُ اللهَ تعالى أنْ يَجعَلَنا وإيَّاكم ممَّن حِسابُه يَسيرٌ، ومآلُه إلى دارِ القَرارِ في جنَّاتِ النَّعيمِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: في عِدادِ مَن يَعلَمُ في ذلك الوقْتِ، لَمَا آثرْتُمُ الفانِيَ على الباقي، ولَأقْبَلْتُم على ما يَنفَعُكم، وتَركْتُم الخَلاعةَ الَّتي لا يَرْضاها عاقِلٌ، ولا يكونُ على تَقديرِ الرِّضا بفِعْلِها إلَّا بعدَ الفراغِ مِنَ المُهِمِّ، ولكنَّكم كنتُمْ في عِدادِ البهائمِ. وفي ذلك تَنبيهٌ للمُؤمنينَ -الَّذين هم الوارِثونَ- على الشُّكرِ على ما منَحَهُم؛ مِن السُّرورِ بإهلاكِ أعدائهِم، وإيراثِهم أرْضَهم ودِيارَهم، مع إعزازِهم، والبَرَكةِ في أعمارِهم، بعدَ إراحَتِهم منهم في الدُّنيا، ثمَّ بإدامةِ سَعادتِهم في الآخرةِ، وشَقاوةِ أعدائِهم .
5- قال اللهُ تعالى: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إنَّما ذكَرَ قَلِيلًا؛ لأنَّ الواحِدَ مِن أهْلِ الدُّنْيا وإنْ لَبِثَ في الدُّنْيا سِنينَ كثيرةً، فإنَّه يكونُ قَلِيلًا في جَنبِ ما يلْبَثُ في الآخرةِ .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، لمَّا كان مُجرَّدُ ذِكْرِ الآياتِ كافيًا في الإيمانِ، نبَّهَ على ذلك بالبِناءِ للمفعولِ: تُتْلَى عَلَيْكُمْ .
2- عن زَيدِ بنِ أسلَمَ، قال: (واللهِ ما قالَتِ القَدريَّةُ كما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ولا كما قالتِ الملائكةُ، ولا كما قال النَّبيُّونَ، ولا كما قال أهْلُ الجنَّةِ، ولا كما قال أهْلُ النَّارِ، ولا كما قال أخُوهم إبليسُ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] ، وقالتِ الملائكةُ: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة: 32] ، وقال شُعيبٌ: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا [الأعراف: 89] ، وقال أهْلُ الجنَّةِ: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف: 43] ، وقال أهْلُ النَّارِ: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا، وقال أخُوهم إبليسُ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] ) .
3- قَولُ اللهِ تعالى: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، فيه سُؤالٌ: كيف يَجوزُ أنْ يَطلُبوا ذلك، وقد عَلِموا أنَّ عِقابَهم دائمٌ؟
الجوابُ: يجوزُ أنْ يَلْحَقَهمُ السَّهوُ عن ذلك في أحوالِ شِدَّةِ العذابِ، فيسأَلونَ الرَّجعةَ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ مع عِلْمِهم بذلك، يسأَلون ذلك على وَجْهِ الغَوثِ والاستِرواحِ .
4- أنَّ عَذابَ الكافرينَ عَذابٌ مُؤلِمٌ ألَمًا نَفْسيًّا، وألَمًا جُسمانيًّا؛ فأمَّا الألَمُ النَّفْسيُّ فدَليلُه قولُه تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ؛ فهذا مِن أبلَغِ ما يكونُ مِن الإذلالِ الَّذي به الألَمُ النَّفسيُّ، وأمَّا الألَمُ البَدنيُّ فدليلُه قَولُ اللهِ تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56] ، وقولُه تعالى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15] ، وقولُه تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19 - 22] .
5- قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ يُستفادُ مِن هذا: التَّحذيرُ مِن السُّخريةِ والاستِهزاءِ بالضُّعفاءِ والمساكينِ، والاحتِقارِ لهم، والإزراءِ عليهم، والاشتِغالِ بهم فيما لا يُغْني، وأنَّ ذلك مُبْعِدٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، احتَجَّ مَن أنكَرَ عذابَ القبْرِ بهذه الآيةِ، فقال: قولُه: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَتناوَلُ زَمانَ كَونِهم أحياءً فوقَ الأرضِ، وزَمانَ كَونِهم أمواتًا في بطْنِ الأرضِ؛ فلو كانوا مُعذَّبِينَ في القبْرِ لَعَلِموا أنَّ مُدَّةَ مُكْثِهم في الأرضِ طويلةٌ، فما كانوا يقولونَ: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؟ والجوابُ مِن وَجْهينِ:
الوجْه الأوَّلِ: أنَّ الجوابَ لا بُدَّ أنْ يكونَ بحسَبِ السُّؤالِ، وإنَّما سُئِلوا عن مَوتٍ لا حياةَ بَعدَه إلَّا في الآخرةِ، وذلك لا يكونُ إلَّا بَعدَ عذابِ القبْرِ.
الوَجْه الثَّاني: يَحتمِلُ أنْ يَكونوا سُئلوا عن قَدْرِ اللُّبثِ الَّذي اجْتَمَعوا فيه، فلا يَدخُلُ في ذلك تَقدُّمُ مَوتِ بَعضِهم على البعضِ؛ فيَصِحُّ أنْ يكونَ جَوابُهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عندَ أنفُسِنا .
7- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، فيه سُؤالٌ: إنْ قِيلَ: كيف يصِحُّ في جَوابِهم أنْ يَقولوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، ولا يقَعُ مِن أهْلِ النَّارِ الكذِبُ؟
الجوابُ: لعلَّهم نَسُوا ذلك؛ لكَثرةِ ما هم فيه مِن الأهوالِ، وقدِ اعْتَرَفوا بهذا النِّسيانِ حيث قالوا: فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ.
وقِيلَ: مُرادُهم بقولِهم: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ: تَصغيرُ لُبْثِهم وتَحقيرُه بالإضافةِ إلى ما وَقَعوا فيه وعَرَفُوه مِن ألِيمِ العذابِ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ يَزعُمون يومَ القيامةِ أنَّهم ما لَبِثوا إلَّا يومًا أو بعضَ يومٍ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ يُفهَمُ منها خِلافُ ذلك؛ كقولِه تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [طه: 103] ، وقولِه تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم: 55] ؟
الجوابُ عن هذا بما دَلَّ عليه القُرآنُ؛ وذلك أنَّ بَعضَهم يقولُ: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: 19] [المؤمنون: 113] ، وبَعضَهم يقولُ: لَبِثْنا ساعةً، وبعضَهم يقولُ: لَبِثْنا عشْرًا. ووَجْهُ دَلالةِ القُرآنِ على هذا: أنَّه بيَّنَ أنَّ أقْواهم إدراكًا، وأرجَحَهم عقْلًا، وأمثَلَهم طَريقةً، هو مَن يقولُ: إنَّ مُدَّةَ لُبْثِهم يومٌ، وذلك قولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه: 104] ؛ فدَلَّ ذلك على اختِلافِ أقوالِهم في مُدَّةِ لُبْثِهم، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
- قولُه: أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ على إضمارِ القولِ تَعنيفًا وتَوبيخًا، وتَذكيرًا لِمَا به اسْتَحقُّوا
ما ابْتُلُوا به مِن العذابِ. والاستفهامُ للإنكارِ .
- وقولُه:
أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ليس بتَكرارٍ لقَولِه قَبْلَه: قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
[المؤمنون: 66] ؛ لأنَّ الأوَّلَ في الدُّنيا عندَ نُزولِ العَذابِ، وهو الجَدبُ عندَ بَعضِهم، ويومُ بَدرٍ
عندَ بعضِهم. والثَّاني في القيامةِ وهم في الجَحيمِ؛ بدَليلِ قولِه: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون: 107]
.
- قَولُه: فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ بِهَا؛ للإعلامِ بمُبالَغَتِهم في التَّكذيبِ .
2- قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ
- مَفعولُ غَلَبَتْ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه شِقْوَتُنَا؛ لأنَّ الشِّقوةَ تُقابِلُها السَّعادةُ، أي: غلَبَتْ شِقوتُنا السَّعادةَ .
- ومُثِّلَت حالةُ اختيارِهم لأسبابِ الشِّقوةِ بَدَلَ أسبابِ السَّعادةِ بحالةٍ غائرةٍ بيْنَ السَّعادةِ والشَّقاوةِ على
نُفوسِهم. وإضافةُ الشِّقوةِ إلى ضَميرِهم؛ لاختِصاصِها بهم حين صارَتْ غالِبةً عليهم .- وفي جَعْلِ الخبَرِ
قَوْمًا ضَالِّينَ دونَ الاقتِصارِ على ضَالِّينَ تنبيهٌ على أنَّ الضَّلالةَ سَجِيَّةٌ فيهم ومن شِيمَتِهم حتَّى كأنَّها مِن مُقَوِّماتِ
قَوميَّتِهم .3- قولُه تعالى: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ تَدرُّجٌ مِن الإقرارِ بالذَّنْبِ إلى الرَّغبةِ والتَّضرُّعِ .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ عُدْنَا؛ لِظُهورِه مِن المَقامِ؛ إذ كان إلْقاؤهم في النَّارِ لأجْلِ الإشراكِ
والتَّكذيبِ، كما دَلَّ عليه قولُهم: وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ .
4- قولُه تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ استِئنافٌ قُصِدَ منه
إغاظَتُهم بمُقابَلةِ حالِهم يومَ العذابِ بحالِ الَّذين أنعَمَ اللهُ عليهم، وتَحسيرُهم على ما كانوا يُعامِلون به المُسلمينَ . وقيل:
تَعليلٌ لِمَا قَبلَه مِن الزَّجرِ عن الدُّعاءِ . وهذه الآيةُ مِن الخبَرِ الَّذي يُقالُ للكُفَّارِ على جِهَةِ التَّوبيخِ .
- والإخبارُ في قولِه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي إلى قولِه: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا مُستعمَلٌ في كَونِ المُتكلِّمِ عالِمًا
بمَضمونِ الخَبرِ؛ بقَرينةِ أنَّ المُخاطَبَ يَعلَمُ أحوالَ نَفْسِه. وتأْكيدُ الخَبرِ بـ (إنَّ) وضَميرِ الشَّأنِ؛ للتَّعجيلِ بإرهابِهم .
5- قوله تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ
- قولُه: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي مُتضمِّنٌ للتَّخويفِ؛ لِوُرودِه تَوبيخًا للقومِ، وأنَّه إنَّما جَرَّهم إلى السُّخريةِ
بأولياءِ اللهِ تَرْكُ الذِّكرِ المُؤدِّي إلى عدَمِ الخَوفِ مِن اللهِ تعالى؛ فقولُه: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا مُرتَّبٌ على قولِه:
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وهو تَعليلٌ لقولِه: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ .
- قولُه: سِخْرِيًّا مَصدرٌ زِيدَتْ فيه ياءُ النِّسبةِ؛ للمُبالَغةِ ، وسُلِّطَ الاتِّخاذُ على المصدرِ في قولِه:
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا؛ للمُبالَغةِ، كما يُوصَفُ بالمَصدرِ .
- قوله: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ اسْتِهْزَاءً بِهِم، وأضافَ الإنساءَ إلى المُؤمنينَ؛
لأنَّهم كانوا سببًا لاشتِغالِهم عن ذِكْرِه، وتَعدِّي شُؤمِ استِهزائِهم بالمُؤمنينَ إلى استِيلاءِ الكُفْرِ على قُلوبِهم .
- وَكُنْتُمْ أي: بأخلاقٍ هي كالجِبِلَّةِ، مِنْهُمْ أي: خاصَّةً، تَضْحَكُونَ كأنَّهم لَمَّا صَرَفوا
قُواهُمْ إلى الاستِهزاءِ بهم، عُدَّ ضَحِكُهم مِن غَيرِهم عدَمًا .
6- قولُه تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ استِئنافٌ لِبَيانِ حُسنِ حالِهم، وأنَّهم انْتَفَعوا بما آذَوْهم
. وقيل: خبَرُ (إنَّ) في قولِه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ؛ لزِيادةِ التَّأكيدِ .
- قولُه: بِمَا صَبَرُوا إدماجٌ للتَّنويهِ بالصَّبرِ، والتَّنبيهِ على أنَّ سُخريَّتَهم بهم كانت سَببًا في صَبْرِهم الَّذي أكسَبَهم الجَزاءَ.
وفي ذلك زِيادةُ تَلْهيفٍ للمُخاطَبينَ بأنْ كانوا هم السَّببَ في ضَرِّ أنفُسِهم، ونَفعِ مَن كانوا يَعُدُّونهم أعداءَهم .
- قولُه: أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قِراءةُ فَتْحِ الهمزةِ على معنَى المصدريَّةِ والتَّأكيدِ؛ أي: جَزَيتُهم بأنَّهم. وقِراءةُ كَسْرِ
هَمزةِ (إنَّ) على التَّأكيدِ فقطْ؛ فتكونُ استئنافًا بَيانيًّا للجزاءِ . وقيل: على قِراءةِ فَتحِ الهمزةِ تَعليلٌ، أي:
جَزَيتُهم لأنَّهم، والكَسرُ على الاستئنافِ، وقد يُرادُ به التَّعليلُ؛ فيكونُ الكَسرُ مِثْلَ الفَتحِ مِن حيثُ المعنى
. وقيل: كَسرُ الهمزةِ على أنَّه تَعليلٌ للجزاءِ، وبَيانٌ لِكَونِه في غايةِ ما يكونُ مِن الحُسنِ .
- وضَميرُ الفَصلِ هُمُ؛ للاختصاصِ، أي: هم الفائِزونَ لا أنتم .
7- قولُه تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ تَذكيرٌ لِمَا لَبِثوا
فيما سَأَلوا الرُّجوعَ إليه مِن الدُّنيا بَعدَ التَّنبيهِ على استِحالَتِه .
- والاستِفهامُ في قولِه: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ؛ لِيَظهَرَ لهم خَطَؤُهم؛
إذْ كانوا يَزعُمون أنَّهم إذا دُفِنوا في الأرضِ لا يَخرُجون منها. وإضافةُ لَفظِ (عدد) إليه تأكيدٌ
لِمَضمونِ (كم)؛ لأنَّ (كم) اسمُ استِفهامٍ عن العدَدِ، فذِكْرُ لَفظِ (عدد) معها تأكيدٌ لبَعضِ مَدْلولِها .
8- قوله تعالى: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ
- قولُه: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استَقْصَروا مُدَّةَ لُبْثِهم في الدُّنيا بالإضافةِ إلى خُلودِهم، ولِمَا هم فيه مِن عَذابِها؛
لأنَّ المُمْتحَنَ يَستطيلُ أيَّامَ مِحْنَتِه، ويَستقصِرُ ما مَرَّ عليه مِن أيَّامِ الدَّعةِ إليها. أو لأنَّهم كانوا في سُرورٍ، وأيَّامُ السُّرورِ
قِصارٌ، أو لأنَّ المُنْقضِيَ في حُكْمِ ما لم يكُنْ .
- وإيقافُهم على ضَلالِ اعتِقادِهم الماضي جِيءَ به في قالَبِ السُّؤالِ عن مُدَّةِ مُكْثِهم في الأرضِ؛ كِنايةً عن ثُبوتِ
خُروجِهم مِن الأرضِ أحياءً، وهو ما كانوا يُنكِرونَه، وكِنايةً عن خطَأِ استدلالِهم على إبطالِ البَعثِ باستحالَةِ رُجوعِ
الحياةِ إلى عِظامٍ ورُفاتٍ، وهي حالةٌ لا تَقْتَضي مُدَّةَ قَرنٍ واحدٍ؛ فكيف وقد أُعِيدَت إليهم الحياةُ بَعْدَ أنْ بَقُوا قُرونًا
كثيرةً، فذلك أدَلُّ وأظهَرُ في سَعةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ، وأدخَلُ في إبطالِ شُبْهَتِهم؛ إذ قد تبيَّنَ بُطلانُها فيما هو أكثَرُ ممَّا
قَدَّروهُ مِن عِلَّةِ استِحالةِ عَودِ الحياةِ إليهم. وقد دَلَّ على هذا قولُه في آخِرِ الآيةِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقد ألْجَأَهم اللهُ إلى إظهارِ اعتقادِهم قِصرَ المُدَّةِ الَّتي بَقُوها؛ زِيادةً
في تَشويهِ خطَئِهم، فإنَّهم لمَّا أحسُّوا مِن أنفُسِهم أنَّهم صاروا أحياءً كحياتِهم الأُولى، وعاد لهم تَفكيرُهم القديمُ ا
لَّذي ماتوا عليه، وكانوا يَتوهَّمون أنَّهم إذا فَنِيَت أجسادُهم لا تعودُ إليهم الحياةُ: أوهَمَهم كَمالُ أجسادِهم أنَّهم ما
مَكَثوا في الأرضِ إلَّا زمنًا يَسيرًا لا يَتغيَّرُ في مِثْلِه الهيكلُ الجُثمانِيُّ، فبَنَوا على أصْلِ شُبْهَتِهم الخاطئةِ خطَأً آخَرَ .
9- قولُه تعالى: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صَدَّقَهم اللهُ في مَقالِهم لِسِنِي
لُبْثِهم في الدُّنيا، ووبَّخَهم على غَفْلَتِهم الَّتي كانوا عليها .
- ولم يُعْطَفْ فِعْلُ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا؛ لأنَّه جاء على طَريقةِ حِكايةِ المُحاوَراتِ .
- قولُه: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يُؤْذِنُ بكَلامٍ مَحذوفٍ، على طَريقةِ دَلالةِ الاقتِضاءِ ؛ لأنَّهم قد لَبِثُوا أكثَرَ مِن يومٍ أو
بعضَ يومٍ بكثيرٍ؛ فكيف يُجعَلُ قليلًا؟! فتعيَّنَ أنَّ قولَه: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا
لكَلامِهم إلَّا بتَقديرِ: قال: بلْ لَبِثْتُم قُرونًا، وإنْ لَبِثْتم إلَّا قليلًا فيما عندَ اللهِ .
- قولُه: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الجَوابُ مَحذوفٌ؛ ثِقَةً بدَلالةِ ما سبَقَ عليه، أي: لعَلِمْتُم يَومئذٍ قِلَّةَ لُبْثِكم فيها .
سورةُ المُؤْمِنونَ الآيات (115-118)
غريب الكلمات:
عَبَثًا: العَبَثُ: اللَّعِبُ، وما لا فائدةَ فيه، وكلُّ ما ليس له غَرَضٌ صحيحٌ، يُقالُ: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثًا:
إذا خَلَط عَمَلَه بلَعِبٍ، وأصلُ (عبث): يَدُلُّ على الخَلْطِ .
بُرْهَانَ: البرهانُ: الحُجَّةُ والدَّليلُ، وأصْلُه: وُضوحُ الشَّيءِ .
المعنى الإجمالي:
يقولُ اللهُ تعالى: أفظَنَنتُم أنَّما خلَقْناكم لَعِبًا وباطلًا، لا لحِكمةٍ ولا فائدةٍ، وأنَّكم لا تُرجَعونَ إلينا يومَ
القِيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ؟! فتعاظَمَ وتقَدَّسَ اللهُ الملِكُ الحَقُّ عن أنْ يَخلُقَ شيئًا من المخلوقات عَبثًا،
وعن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بعظمته وجَلالِه وكَمالِه، لا إلهَ غَيرُه، وهو ربُّ العَرشِ الكريمِ.
ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى أنَّ مَن يَعبُدُ مع اللهِ الواحِدِ إلهًا آخَرَ لا دَليلَ له على استِحقاقِه العِبادةَ، فسَيَلْقَى
الحِسابَ الشَّديدَ في الآخرةِ مِن ربِّه جلَّ وعلا؛ إنَّه لا نَجاةَ ولا فلاحَ للكافرينَ يومَ القيامةِ.
ثمَّ أمَر اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَدْعوَه فيقولَ: ربِّ اغفِرْ وارحَمْ، وأنت سبحانَك خيرُ مَن يَرحَمُ.
تفسير الآيات:
أَ
فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ سُبحانَه صِفاتِ القِيامةِ؛ ختَمَ الكلامَ فيها بإقامةِ الدَّلالةِ على وُجودِها؛ وهي أنَّه لولا القِيامةُ لَمَا
تميَّزَ المُطِيعُ مِن العاصي، والصِّدِّيقُ مِن الزِّنديقِ، وحينَئذٍ يكونُ خَلْقُ هذا العالَمِ عبَثًا ، فقال:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا.
أي: أفظَنَنْتُم أنَّني خلَقْتُكم لَعِبًا وباطلًا، بلا قصْدٍ ولا فائدةٍ ولا حِكْمةٍ، مُهمَلينَ؛
لا تُؤْمَرونَ ولا تُنهَون، ولا تُثابُون ولا تُعاقَبون ؟!
كما قال تعالى:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الأنبياء: 16]
.
وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
وقال تَباركَ وتَعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] .
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ.
أي: وتَحْسَبون أنَّكم بَعدَ مَوتِكم لا تُبعَثون يومَ القِيامةِ أحياءً للحِسابِ والجَزاءِ على أعْمالِكم خَيرِها وشَرِّها ؟!
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116).
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.
أي: فتَعاظَمَ وتقدَّسَ اللهُ عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ به سُبحانَه، ومِن ذلك إيجادُه المخلوقاتِ عَبثًا؛ فإنَّه التَّامُّ المُلْكِ
الَّذي قهَرَ كُلَّ شَيءٍ، الَّذي لا يَتطرَّقُ الباطِلُ إليه في شَيءٍ مِن ذاتِه ولا صِفاتِه؛
فلا زوالَ له ولا لِمُلْكِه، فأنَّى يأْتيهِ العَبثُ ؟!لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الحَقُّ مِن حيثُ هو قدْ يكونُ له ثانٍ؛ نفَى ذلك في حَقِّه تعالى بقولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ فلا يُوجَدُ له نظيرٌ أصلًا
في ذاتٍ ولا صِفَةٍ، ومَن يكونُ كذلك يكونُ حائزًا لجَميعِ أوصافِ الكَمالِ، وخِلالِ الجَلالِ والجَمالِ، مُتعاليًا عن
سِماتِ النَّقصِ، والعبَثُ مِن أدْنى صِفاتِ النَّقصِ؛ لِخُلُوِّهِ عن الحِكمةِ الَّتي هي أساسُ الكَمالِ. ثمَّ زاد في
التَّعيينِ والتَّأكيدِ للتَّفرُّدِ بوَصْفِه بصِفَةٍ لا يَدَّعِيها غيرُه، فقال: رَبُّ الْعَرْشِ .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، وكلُّ ما سِواهُ عَبيدُه؛ فهو المُستحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له .
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
أي: رَبُّ العَرْشِ الشَّريفِ الحسَنِ البَهِيِّ المَنْظَرِ، الَّذي هو سَقْفُ المَخلوقاتِ وأعظَمُها .
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه هو المَلِكُ الحقُّ لا إلَهَ إلَّا هو؛ أتبَعَه بأنَّ مَنِ ادَّعَى إلهًا آخَرَ فقدِ ادَّعَى باطِلًا مِن حيثُ لا
بُرهانَ لهم فيه، ثمَّ ذكَرَ أنَّ مَن قال بذلك فجزاؤُه العِقابُ العظيمُ؛ بقولِه: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ .
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
أي: ومَن يَعبُدْ مع اللهِ مَعبودًا آخَرَ لا حُجَّةَ له على عِبادتِه؛ فرَبُّه وَحْدَه سيُحاسِبُه يومَ القيامةِ، ويُعذِّبُه على شِرْكِه به
.
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
أي: إنَّه لا يَنجَحُ الكافِرونَ، ولا يَسْعدون، ولا يَفوزونَ، ولا يَنالونَ الخُلودَ في نَعيمِ الجنَّةِ، بلْ هم أهْلُ النَّارِ الهالِكونَ .
كما قال تعالى:
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69، 70].
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى أحوالَ الكُفَّارِ في جَهْلِهم في الدُّنيا، وعذابِهم في الآخرةِ؛ أمَرَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
بالانقطاعِ إليه، والالتِجاءِ إلى دَلائلِ غُفْرانِه ورَحْمَتِه؛ فإنَّهما هما العاصِمانِ عن كلِّ الآفاتِ والمَخافاتِ .
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ.
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: يا رَبِّ، استُرْ ذُنوبَنا، وتجاوَزْ عن مُؤاخَذَتِنا بها، وارْحَمْنا في دُنيانا وآخِرَتِنا
.
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.أي: وأنتَ أفضَلُ مَن رحِمَ .
الفوائد التربوية:
1- إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خَلَق الجِنَّ والإنسَ؛ لحِكمةٍ عَظيمةٍ، وغايةٍ حميدةٍ،
وهي عبادتُه تبارك وتعالى، كما قال سُبحانَه وتعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقال تعالى:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] ،
إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّ لله تعالى حِكمةً بالِغةً مِن خَلقِ الجِنِّ والإنسِ، وهي عبادتُه. وعلى هذا
فمَن تمَرَّد على رَبِّه واستكبَرَ عن عبادتِه فإنَّه يكونُ نابذًا لهذه الحِكمةِ التي خَلَق اللهُ العِبادَ مِن أجْلِها، وفِعلُه
يَشهَدُ أنَّ اللهَ خَلَق الخَلقَ عَبثًا وسُدًى! وهو وإنْ لم يُصَرِّحْ بذلك لكِنْ هذا هو مُقتَضى تمرُّدِه واستِكبارِه عن طاعةِ رَبِّه
.
2- قَوْله تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا يدلُّ على أنَّ الآدَمِيَّ لم يُخلَقْ لطلبِ الدُّنيا
والاشتِغالِ بها، وإنَّما خُلِق ليَعبدَ الله، ويقومَ بأوامرِه .
ا
لفوائد العلمية واللطائف:
1- مَن تأمَّلَ بَعضَ هِدايةِ اللهِ المَبْثوثةِ في العالَمِ، شهِدَ له بأنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ
إلَّا هوَ، عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ، العزيزُ الحكيمُ، وانتقَلَ مِن مَعرفةِ هذه الهِدايةِ إلى
إثباتِ النُّبوَّةِ بأيسَرِ نظَرٍ، وأوَّلِ وَهلةٍ، وأحسَنِ طَريقٍ وأخصَرِها، وأبْعَدِها مِن كُلِّ
شُبهةٍ؛ فإنَّه لم يُهمِلِ هذه الحيواناتِ سُدًى، ولم يَتْرُكْها مُعطَّلةً، بلْ هَداها إلى هذه
الهِدايةِ الَّتي تَعجِزُ عُقولُ العُقلاءِ عنها. كيف يَلِيقُ به أنْ يَترُكَ النَّوعَ الإنسانيَّ
-الَّذي هو خُلاصةُ الوُجودِ، الَّذي كرَّمَه وفضَّلَه على كَثيرٍ مِن خَلْقِه- مُهْمَلًا،
وسُدًى مُعطَّلًا، لا يَهْديهِ إلى أقْصَى كَمالاتِه، وأفضَلِ غاياتِه، بلْ يَترُكُه مُعطَّلًا
لا يأمُرُه ولا يَنهاهُ، ولا يُثِيبُه ولا يُعاقِبُه؟! وهل هذا إلَّا مُنافٍ لِحِكمَتِه، ونِسْبةٌ
له مَا لا يَلِيقُ بجَلالِه؟! ولهذا أنكَرَ ذلك على مَن زعَمَه، ونزَّهَ نفْسَه عنه، وبيَّنَ
أنَّه يَستحِيلُ نِسْبةُ ذلك إليه، وأنَّه يَتعالى عنه؛ فقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ؛ فنزَّهَ نفْسَه عن هذا الحُسبانِ؛
فدَلَّ على أنَّه مُستقِرٌّ بُطلانُه في الفِطَرِ السَّليمةِ، والعُقولِ المُستقيمةِ، وهذا أحَدُ ما
يدُلُّ على إثباتِ المَعادِ بالعقْلِ، وأنَّه ممَّا تظاهَرَ عليه العقْلُ والشَّرعُ .
2- قال اللهُ تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى
اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ في هذينِ الاسمينِ: الْمَلِكُ الْحَقُّ إبطالٌ لهذا الحُسبانِ الَّذي ظَنَّه
أعداؤُه؛ إذْ هو مُنافٍ لكَمالِ مُلْكِه ولكونِه الحَقَّ؛ إذِ الْمَلِكُ الْحَقُّ هو الَّذي يكونُ له
الأمرُ والنَّهيُ، فيَتصرَّفُ في خَلْقِه بقولِه وأمْرِه، وهذا هو الفَرقُ بين (المَلِكِ)
و(المالكِ)؛ إذِ المالِكُ هو المُتصرِّفُ بفِعْلِه، والمَلِكُ هو المُتصرِّفُ بفِعْلِهِ وأَمْرِهِ،
والرَّبُّ تعالى مالِكُ المُلْكِ، فهو المُتصرِّفُ بفِعْلِه وأَمْرِهِ، فمَن ظَنَّ أنَّه خَلَقَ خلْقَه
عَبثًا، لم يأمُرْهم ولم يَنْهَهُم، فقد طعَنَ في مُلْكِه، ولم يَقْدُرْه حَقَّ قَدْرِه، كما قال تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] ،
فمَن جحَدَ شرْعَ اللهِ وأمْرَه ونَهْيَه، وجعَلَ الخلْقَ بمَنزلةِ الأنعامِ المُهْمَلةِ؛
فقد طعَنَ في مُلْكِ اللهِ، ولم يَقْدُرْه حَقَّ قَدْرِه .
3- قال اللهُ تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ لَمَّا كان بعضُ مُلوكِ الدُّنيا قد يَفعَلُ ما يُنافي
شِيَمَ المُلوكِ مِن العبَثِ بما فيه مِنَ الباطلِ، أتْبَعَ ذلك بصِفَةٍ تُنزِّهُه عنه، فقال: الْحَقُّ .
4- دُعاءُ غيرِ اللهِ كُفْرٌ؛ لقولِه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، فأثبَتَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ أمْرينِ مُهمَّينِ:
الأمْرَ الأوَّلَ: أنَّ مَن دعا غيرَ اللهِ فهو كافِرٌ؛ لقولِه: لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
الأمرَ الثَّانيَ: أنَّ مَن دعا غيرَ اللهِ فإنَّه لا يُفلِحُ، لا يَحصُلُ له مَطلوبُه،
ولا يَنْجو مِن مَرْهوبِه، فيكونُ داعِي غيرِ اللهِ خاسرًا في دِينِه ودُنياه، وإذا كان
غيرَ مُفلِحٍ فهو أيضًا غيرُ عاقلٍ، بلْ هذا غايةُ السَّفهِ؛ لقولِه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
[الأحقاف: 5] ، أي: لا أحَدَ أضَلُّ ممَّن يَدْعو مِن دُونِ اللهِ، ولكنَّه جاء هذا النَّفيُ
بصِيغةِ الاستِفهامِ؛ لأنَّه أبلَغُ مِنَ النَّفيِ المحضِ، حيث يكونُ مُشرَبًا معنَى التَّحدِّي .
5- صيغةُ التَّفضيلِ في قولِه: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ؛ لأنَّ المخلوقينَ قد يرحمُ
بعضُهم بعضًا، ولا شكَّ أنَّ رحمةَ اللهِ تُخالِفُ رَحمةَ خَلقِه، كمخالفةِ ذاتِه وسائِرِ صِفاتِه لِذَواتِهم وصِفاتِهم .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ
- قولُه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا فرَّعَ الاستِفهامَ عن حُسبانِهم أنَّ الخلْقَ
لأجْلِ العبَثِ على إظهارِ بُطلانِ ما زعَمُوه مِن إنكارِ البَعثِ. والاستِفهامُ تَقريرٌ
وتَوبيخٌ؛ لأنَّ لازِمَ إنكارِهم البَعثَ أنْ يكونَ خلْقُ النَّاسِ مُشتمِلًا على
فنُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن حَسِبَ ذلك، فقُرِّرُوا ووُبِّخُوا؛ أخْذًا لهم بلازِمِ اعتقادِهم .
2- قوله تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
- وجُملةُ: فَتَعَالَى اللَّهُ يجوزُ أنْ تكونَ خبَرًا، قُصِدَ منه التَّذكيرُ والاستِنتاجُ
ممَّا تقدَّمَ مِن الدَّلائلِ المُبيِّنةِ لمعنَى تعالِيه، وأنْ تكونَ إنشاءَ ثَناءٍ عليه بالعُلوِّ .
- قولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ دَليلانِ على ما قَبلَه فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ
الْحَقُّ؛ وهما: انفرادُه بالإلهيَّةِ، وذلك وَصفٌ ذاتِيٌّ، وبأنَّه مالِكُ أعظَمِ المخلوقاتِ
-أعني: العرشَ-، وذلك دَليلُ عَظمةِ القُدرةِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء هنا قولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ،
وفي (التَّوبةِ): فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
[التوبة: 129] ، وفي (النَّملِ): لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 26] ؛
ووَجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى وُصِفَ العرشُ بالكريمِ؛ لأنَّه في سِياقِ الحُكْمِ بالعَدلِ،
والتَّنزُّهِ عن العَبثِ، بخِلافِ سِياقِ سُورةِ (التَّوبةِ) و(النَّملِ)، فإنَّه للقَهرِ والجَبروتِ
.
3- قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
- قولُه: لَ
ا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صِفَةٌ لازِمةٌ، نحوَ قولِه: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] ؛
جِيءَ بها للتَّوكيدِ، وبِناءِ الحُكْمِ عليه، لا أنْ يكونَ في الآلهةِ ما يَجوزُ أنْ يقومَ
عليه بُرهانٌ. وتَنبيهًا على أنَّ التَّديُّنَ بما لا دَليلَ عليه باطِلٌ، فكيفَ بما شَهِدَتْ
بَديهةُ العُقولِ بخِلافِه؟! ويجوزُ أنْ يكونَ اعتراضًا بيْنَ الشَّرطِ والجَزاءِ؛ لتَوكيدِ مَضمونِهما .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، ولم يقُل: (لَا بُرْهَانَ لَهُ عليه)؛
ووجه ذلك: أنَّه لَمَّا كان المُرادُ ما يُسمَّى بُرهانًا -ولو على أدْنى الوُجوهِ الكافيةِ-،
عبَّرَ بالباءِ؛ سُلوكًا لِغايةِ الإنصافِ، دُونَ (على) المُفْهِمةِ للاستِعلاءِ بغايةِ البَيانِ،
فقال: بِهِ، أي: بسبَبِ دُعائِه؛ فإنَّه إذا اجتهَدَ في إقامةِ بُرهانٍ على ذلك لم يَجِدْ،
بلْ وجَدَ البراهينَ كلَّها قائمةً على نفْيِ ذلك .
- والقَصرُ في قولِه: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَصرٌ حَقيقيٌّ. وفيه إثباتُ الحسابِ،
وأنَّه للهِ وَحْدَه؛ مُبالَغةً في تَخطِئَتِهم وتَهديدِهم، ويجوزُ أنْ يكونَ القَصرُ إضافِيًّا؛
تَطمينًا للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ اللهَ لا يُؤاخِذُه باستِمرارِهم على الكُفْرِ،
ويدُلُّ على ذلك تَذييلُه بجُملةِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
- قولُه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وُضِعَ الْكَافِرُونَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ لأنَّ (مَنْ يَدْعُ)
في معنَى الجَمعِ، والأصلُ: حِسابُه أنَّه لا يُفلِحُ هو، وإنَّما وجَبَ الجَمْعُ؛ لأنَّ
الآيةَ تَذييلٌ للآياتِ الواردةِ في حَقِّ المُعانِدينَ المُصرِّينَ . ووُضِعَ الْكَافِرُونَ
مَوضِعَ الضَّميرِ المُفرَدِ بَعدَ الإفرادِ في حِسَابُهُ؛ للإشعارِ بأنَّ عدَمَ الفَلاحِ مُعلَّلٌ
بالكُفْرِ، فوُضِعَ الْكَافِرُونَ مَوضِعَ ضَميرِه؛ تَنبيهًا على كُفْرِه، وتَعميمًا للحُكْمِ،
فصار أوَّلُ السُّورةِ وآخِرُها مُفْهِمًا لِأنَّ الفَلاحَ مُختَصٌّ به المُؤمِنونَ،
:005: ولِيَتطابَقَ أوَّلُ السُّورةِ وآخِرُها ، أو لِرِعايةِ التَّوافُقِ في الفواصِلِ .
- وفيه: تَسليةٌ للرَّسولِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه .
- وفيه: ضَرْبٌ مِن رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ؛ إذِ افتُتِحَتِ السُّورةُ بـ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
[المؤمنون: 1] ، وخُتِمَت بـ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وهو نَفْيُ الفلاحِ عن الكافرينِ ضِدَّ المُؤمِنينَ .
4- قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
- في حَذْفِ مُتعلَّقِ اغْفِرْ وَارْحَمْ تَفويضُ الأمرِ إلى اللهِ في تَعيينِ المَغفورِ
لهم والمَرحومِينَ، والمُرادُ مَن كانوا مِن المُؤمِنينَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ المعنى:
اغْفِرْ لي وارْحَمْني؛ بقَرينَةِ المَقامِ .
- وفيه: إيذانٌ بأنَّ الاستِغفارَ والاستِرحامَ مِن أهمِّ الأُمورِ الدِّينيَّةِ؛ حيثُ أُمِرَ
بهما مَن قد غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنْبِه وما تأخَّرَ، فكيف بمَن عدَاهُ ؟!
- وأمْرُه بأنْ يَدعُوَ بذلك يَتضمَّنُ وَعْدًا بالإجابةِ، وهذا الكلامُ مُؤْذِنٌ
بانتِهاءِ السُّورةِ؛ فهو مِن بَراعةِ المَقطَعِ .